لم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود طويلة هذا المستوى من الانقسام المجتمعى والسياسى الذى خلَّفه حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، وأيضاً حالة الاستقطاب التى لم تشمل فقط قوى التطرف من اليمين القومى وتيارات اليسار، إنما أيضاً قوى الاعتدال ممثلة فى الحزبين الجمهورى والديمقراطى. ورغم أن الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن، يمتلك أوراق قوة كثيرة، فإنه يواجه أيضاً تحديات أكثر ستجعل هناك فرصة حقيقية لتحويل الانقسام والاستقطاب الخشن، إلى منافسة تقليدية ناعمة بين يمين محافظ ممثل فى الحزب الجمهورى وتيار ليبرالى اجتماعى ممثل فى الحزب الديمقراطى.
استعاده ثقة المؤسسات
على خلاف الصورة التى رسّخها ترامب طوال سنوات حكمه بأنه رجل عشوائى يكره العلم والمؤسسات ولا يحترم الدستور والقانون، فإن بايدن بدا فى صورة رجل دولة بامتياز، سواء بالنسبة لطريقة عمله وإدارته لحملته الانتخابية، أو بالنسبة لمضمون خطابه وآليات تعامله مع المؤسسات الأمريكية بداية من الجيش ومروراً بالقضاء وانتهاء بباقى الأجهزة الفيدرالية.
ترامب، الذى كان أحد مصادر قوته وأحد أسباب انتخابه منذ أكثر من 4 سنوات، أنه قادم من خارج المؤسسات السياسية، ومن خارج «Establishment» أو التيار المسيطر فى الحياة السياسية الأمريكية، قدم نفسه باعتباره الصوت الجديد والبديل (وأحياناً المنقذ) للنظام السياسى القائم الذى يكرر نفسه بدوران بين النخبة نفسها. وعادة ما تكون ثقافة الرجل المخلص أو الرئيس القادم من خارج المؤسسات الحزبية والسياسية فى مواجهة مع مؤسسات دولته، وهذا ما جرى مع الرئيس المنتهية ولايته، الذى حاول منذ اليوم الأول تطويعها لصالح توجهاته المتطرفة، وهو ما فشل فيه، حيث نجحت المؤسسات الديمقراطية القوية والراسخة فى أن تعدل من تطرف خطابه السياسى وتدفعه اضطراراً لاحترام الدستور والقانون وتجبره فى النهاية على مغادرة السلطة احتراماً لإرادة الناخبين والعملية الديمقراطية.
والحقيقة أن بايدن، على عكس ترامب، جاء من داخل المؤسسات السياسية والحزبية، فله تاريخ حافل كنائب مرموق فى الكونجرس ثم نائب رئيس، أى أنه منذ اللحظة الأولى هو ابن العمل المؤسسى والمنظم، وهو ما سيعنى أنه سيكون أقدر على كسب ثقة المؤسسات بما فيها الإعلام وتفعيل دورها لمصلحة استعادة ثقة المواطن الأمريكى فى المؤسسات الدستورية والقانونية بعد أن تأثرت أقلية يعتد بها بمزاعم ترامب عن تزوير الانتخابات وغيرها.
وهنا، فإن قدرة بايدن على نيل ثقة المؤسسات واحترامها سيجعلها قادرة على أن تكون عنصراً مهماً فى إعادة اللحمة الوطنية وتخفيف حدة الاستقطاب فى البلاد، وذلك على خلاف حالة المجتمعات التى تدخل فيها المؤسسات طرفاً فى الصراع السياسى مثلما حاول ترامب فى ذلك وفشل. وقد اتضحت أيضاً من خطة بايدن لمواجهة جائحة كورونا خبراته الإدارية وتقديره للعلم، وهى ورقة تمنحه قوة فى لم شمل الأمريكيين من ضحايا الفيروس الذى لم يميز بين الجمهوريين والديمقراطيين.
دعم الاعتدال
ربما يتمثل أحد أبرز ملامح الخبرة السياسية الأمريكية فى قدرتها على إعادة تأهيل أو دمج المهاجرين القادمين إليها من كل بقاع الأرض بحيث لا يسأل الشخص كثيراً عن أصوله مادام التزم بما يسمى «القيم الأمريكية» على خلاف أوروبا والعالم العربى، حيث مازالت الأصول العرقية والدينية تمثل عاملاً مهماً فى اختيارات الناس.
والحقيقة أن أمام بايدن تحدٍيا كبيرا، يتمثل فى أن قدرة النموذج الأمريكى على الدمج والصهر وإعادة التأهيل لم تعد فقط توجه إلى جماعات متطرفة أو فئات مهمشة، إنما صار هناك تيار داخل الحزب الجمهورى وبين قواعده ذهب نحو التطرف وتبنى مقولات ترامب وشعاراته المتطرفة، وهى إشكالية كبيرة تكمن فى أن قسماً من الحزب المحافظ المعتدل، الذى هو جزء أصيل من المشهد السياسى الأمريكى، تحول نحو خطاب اليمين المتطرف بالكامل.
والمؤكد أن توجه بايدن «الإدماجي» يتمسك بالتحالف بين الأعراق المختلفة وخاصة الأمريكيين من أصول إفريقية الذين نال ثقة غالبيتهم الساحقة، ويركز دائماً على احترام التنوع الثقافى، ويرى أن فرص الجميع فى الصعود داخل المنظومة السياسية التى يقودها الحزب الديمقراطى مضمونة على عكس إدارة ترامب وفريقه الرئاسى الذى لم يضم إلا أمريكيين بيضا.
ويتماهى ذلك مع محاولات الحزب الديمقراطى تجسيد الفكرة الليبرالية الأمريكية (فى بلد صنعه مهاجرون) التى هى مصدر قوة النموذج الأمريكى، وتقوم على أنه يمكن دمج أى إنسان فى المنظومة السياسية الأمريكية بصرف النظر عن عرقه ودينه مادام التزم بالدستور والقانون، وهنا يتضح أن الأمريكيين من أصل إفريقى ولاتينى وعربى جزء ظاهر من إدارة بايدن، يعكس التنوع الموجود فى الولايات المتحدة الأمريكية.
إرث ترامب
لكن هذه المقاربة ستواجه مقاومة كبيرة من التيار المحافظ الذى انتقل قطاع منه من الاعتدال إلى التشدد وأصبح محملاً بثقافة استعلاء وإقصاء عمّقها ترامب تجاه كل من هو خارج العرق الأبيض. ومع ذلك مازال أمام بايدن فرصة كبيرة لدمج المعتدلين من الحزب الجمهورى والتركيز على مواجهه المتطرفين، لأن الخطاب المحافظ التقليدى فى الولايات المتحدة الأمريكية سيظل حاضراً لدى قطاعات واسعة من الشعب خاصة من يرفضون استقبال مزيد من المهاجرين، ويرفضون العولمة وكثيرا من السياسات الليبرالية التى همّشت الكثيرين، وجعلت هناك شعبية لخطاب الحزب الجمهورى المتضامن مع هؤلاء خاصة داخل المدن الصغرى والريف.
ولا يمكن إغفال أن الحزب الجمهورى، مازال يحصل على أغلبية أصوات الرجال البيض فوق 45 عاماً وبنسبة تزيد بنحو 20% على الحزب الديمقراطى، فى حين يتقدم الأخير عن الأول لدى كل الأقليات العرقية والنساء والشباب، وهو ما يجعل الانقسام السياسى بين الحزبين مستمراً لعقود قادمة.
من هنا، فإن دعم الاعتدال والعودة إلى الثنائية التاريخية التقليدية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة فى الجمهوريين والديمقراطيين، ليست خياراً سهلاً ولكنه غير مستحيل، وسيبقى التحدى الأبرز الذى يواجه إدارة بايدن الجديدة فى المرحلة القادمة.
رابط دائم: