-
«الأهرام» تشارك التضامن جولات الشارع..وتنقل مريض «كورونا» إلى المستشفى
-
رئيس فريق التدخل السريع: تعاملنا مع 15 ألف حالة ولا نملك إجبارالرافضين
-
حنان..أصابتها سيدة فى رأسها..وأخرى طاردتها بالسكين
-
المستشار العيادي: للقاضى أن يُنذر المتشرد بتغيير أحوال معيشته
-
المريض النفسى المشرد مرفوض من دور الرعاية والمستشفيات!
-
محام بالنقض: تعديلات مرتقبة على قانون التسول لتغليظ العقوبات
كأنه بين اليقظة والمنام، ينظر إلى أقدام الواقفين الملتفين حوله، يسمعهم ينادونه برفق لا يخلو من إلحاح: قم ياعم إبراهيم، لقد آن الآوان لتغادر هذا المكان، وتهجرلحافك القطنى كالح الألوان، وفراشك البارد على رصيف بلا سقف أو جدران، فيرفع الرجل الخمسينى بصره إلى وجوههم ويرمقهم بنظرة شاردة لا تعنى شيئا، ثم يعود ليغلق عينيه سريعا، عله يكمل حلما من أجمل الأحلام، ويرى زوجته تعود وتلقى بين يديه بولده الوحيد، ليضمه إليه فى حضن عميق، ويستمد منه دفئا لم يشعر به منذ زمن بعيد.
لم يكن حلما..إذ أدرك إبراهيم أخيرا أنه قد شاهد «شيرين» تلك المرأة الشابة التى كانت ضمن الواقفين من قبل، حيث أتته قبل يومين تسأله عن ظروفه وما إذا كان يرغب فى الانتقال للعيش بإحدى دور الرعاية مع رفاق له، قد يختلف سيناريو حياتهم عنه كما يختلف عدد سنين أعمارهم، ولكنهم جميعا يتشابهون فى المشهد الأخير الذى جعلهم فجأة يصبحون بلا مأوى.
لم يكن «إبراهيم» يصدق أنها ستعود وتفى بوعدها، هكذا قال لها قبل أن ينظر مودعا نفرا من أهالى منطقة «قهوة شرف» بمنشية الحرية بشبرا الخيمة، والذين تجمعوا حوله فرحين، بالاستجابة لاستغاثتهم، حيث كان لهم فضل كبير فى إنقاذ حياته، المرة الأولى قبل نحو عشرة أيام عندما لاحظوا تعرض الرجل الذى يبيت بالشارع منذ أشهر قليلة، لوعكة صحية مفاجئة ليلا، قاموا على أثرها باستدعاء الإسعاف، وبعد وصولها رفض المسعفون نقله، كما قال مينا سمير من أصحاب محلات تجارة الألمونيوم بالمنطقة: الإسعاف قالت لنا «مابناخدش متسولين» رغم أنه يحمل بطاقة رقم قومى، وفى الصباح قام شاب آخرمن شباب المنطقة يدعى «محمود على» بالتطوع بنقله داخل «توكتوك» إلى مستشفى قريب، حيث تم إجراء فحوصات ورسم قلب وإعطاؤه أدوية، أحضروها له وتحسنت حالته كثيرا، والمرة الثانية عندما قاموا بالتقاط صورة له ونشرها على جروبات التواصل الاجتماعى، مناشدين المسئولين إنقاذ الرجل الذى كان يعمل نجارا ثم تدهورت به الحياة، وهجرته زوجته ومعها «سيف» ولده الوحيد، ولما تراكم عليه إيجار الشقة الصغيرة بعد أن عجز عن مواصلة عمله كنجار، لم يجد إقامة مجانية ترحب به سوى الشارع.
«شيرين» لم تكن إلا واحدة من فريق التدخل السريع الذى يبدو للوهلة الأولى أنه جهد لشباب وشابات من المتطوعين، ولكن الحقيقة أنه نشاط حكومى من أنشطة وزارة التضامن الإجتماعى، بدأ منذ عام 2014 ـ كما علمنا من محمد يوسف رئيس الفريق ـ بتخصيص فرق تضم 115موظفا من الإخصائيين الإجتماعيين والنفسيين بجميع محافظات الجمهورية، للتعامل مع أى مواطن بلا مأوى، سواء كان من الأطفال أو الشباب أو المسنين من الجنسين، أما على مستوى القاهرة الكبرى فالفريق لايزيد عدده عن سبعة أفراد، يجوبون الشوارع لأداء مهمة كثيرا ما تخرج عن مواعيد العمل الرسمية، ولا يتطلب استدعاؤها سوى الاتصال بأحد الخطين الساخنين: 16439 أو 16522، مضيفا: استطعنا التعامل مع أكثر من 15 ألف حالة حتى الآن، وعملنا منوط بالتعامل مع حالة إنسانية ولا ينتهى إلا بإيداعها إحدى دور الرعاية التابعة لجمعيات أهلية مشهرة، لنضمن لهم فراشا دافئا وطعاما نظيفا، ورعاية طبية.

>رئيس الفريق يتدخل أولا لإقناع «نجاة»
قطعنا حوارنا مؤقتا لحين مساعدة عم إبراهيم على الصعود لسيارة الميكروباص بعد أن ارتدى الكمامة وودع أهالى المنطقة الذين ظلوا يلوحون له بحميمية من النافذة المفتوحة إلى جوار المقعد الأخير، حيث اختار أن يجلس براحته هناك ثم أخبرنا أنه سيستلقى لينام نوما عميقا، وبينما احتل عم رضا السائق مقعده خلف مقود السيارة، وصعد أعضاء الفريق وأنا معهم لنكمل الرحلة، وجدتها فرصة لاستئناف الحوار وأخبرنى يوسف أنهم يتعاملون مع حالات مختلفة بالشارع، منها ضعاف البنية وكبار السن الذين فقدوا المأوى فجأة لأى سبب، أو يعانون مشاكل مستعصية مع الأولاد أو الأزواج، ويرغبون فى العيش بكرامة وفى هدوء، أوالمصابين باضطرابات نفسية أو المدمنين، ولكن بالنسبة لهذه الفئة الأخيرة يقول: لا نستطيع التعامل سوى مع الحالات البسيطة منهم، حيث ترفض دور الرعاية استقبالهم لخطورتهم على المكان وباقى النزلاء، هؤلاء يحتاجون لمستشفى متخصص فى الصحة النفسية والعصبية، ولكنهم للأسف أيضا يرفضون استقبالهم باعتبارهم مشردين بلا أهل. ويضيف: أما الفئة الثالثة فهم الأطفال والذين يكونون فى الأغلب برفقة الأم التى نحاول إقناعها بالانتقال لمكان آمن نوفره لها ولطفلها، فإذا رفضت فلابد أن نحرر محضرا بالواقعة بتهمة تعريض حياة طفل للخطر، حيث أن أعضاء فريق التدخل السريع يحملون صفة الضبطية القضائية، مما يمكنهم من التعامل المباشر مع النيابة، أما الفئة الأخيرة فهى من المتسولين المحترفين والذين يمضون يومهم وأحيانا ليلتهم مستلقين بالشارع ليحصدوا الأغذية والبطاطين والأهم المساعدات المالية السخية من المواطنين المارين. ويشير يوسف إلى حالة سيدة موجودة بنفق شبرا الخيمة ضجت بها صفحات الفيس بوك كنموذج صارخ لإمرأة مسنة تفترش السلم المؤدى للنفق، بشكل يدمى القلوب، ولما انتقلنا إليها ـ يضيف محدثنا ـ تبين أنها من محافظة الشرقية، ولها سكن خاص بها بالقاهرة، وأنها تقضى أغلب يومها بهذا المكان «علشان تسترزق» على حد قولها، وينهى كلامه عند هذه النقطة بأن التعامل مع المتسولين ليس من اختصاص الفريق.
ذو اللحية البيضاء
كنا قد وصلنا لمكان الحالة الثانية التى تم الانتقال إليها بناء على بلاغ من المواطنين عن رجل مسن ذى لحية بيضاء يقيم وحيدا بغرفة مهجورة بأحد المشاتل، بمجرد توقف السيارة نزلت مع أعضاء الفريق أمام لافتة مكتوب عليها: محافظة القاهرة ـ مشتل ترعة الإسماعيلية ب، وبدأنا نجوب سور المشتل ذهابا وإيابا بحثا عن منفذ للنزول لأرض المشتل، وعن أى شخص نسأله عن «ذى اللحية البيضاء» إلى أن وجدنا مجموعة من العاملين بالمكان، استطاع أحدهم أن يدلنا عليه قائلا: «قصدكم على عم جمال»، مشيرا بيديه إلى الجانب الآخر للنيل حيث توجد عربة فول لا تكاد ترى من كثرة الواقفين عليها، ولما طال انتظارنا لعودته ذهبنا إليه، وبدأ أعضاء الفريق فى تعريفه بأنفسهم وبكل ود وبشاشة عرضوا عليه الحياة الكريمة الآمنة والجدران الدافئة، بدت عليه علامات الفرحة، وبدأ الرجل السبعينى يروى قصته، وكيف أنه لم يعد قادرا على مواصة عمله كبائع بسوق الخضار بالعتبة بعد أن صدمه «موتوسيكل» ولم تفلح العمليات والعلاجات فى إصلاح ما أفسده هذا الحادث، مضيفا: قادتنى قدماى إلى هذا المكان وكنت أصطاد بسنارتى سمكتين أبيعهما أو أكلهما، وعما إذا كان له أسرة أو أقارب أو أولاد قال: زوجتى اتطلقت منذ سنين وصحيح أننى أنجبت ولدا وبنتا تزوجا وأنجبا أحفادا، لكن صلتى انقطعت بهم، وكنت أعيش وحيدا قبل أن يتراكم عليً الإيجار وأخرج إلى الشارع بلا سكن أو عمل.
قطع حوارنا حسين بائع الفول، الذى حرص على أن يشكر موظفى التضامن وطلب أن يحيينا جميعا بإفطارهدية منه، شكرناه والتفتنا مرة أخرى إلى عم جمال الذى لا يملك بطاقة ولا يأخذ معاشا من أى نوع، فإذا به يغير رأيه ويرفض عرض سامح زينهم أحد أعضاء الفريق بالإنتقال إلى دار رعاية، ويطلب بدلا من ذلك مساعدة مالية تعينه على أن يبيع ويشترى أى شىء يتكسب منه !
عدنا إلى السيارة مرة أخرى، ولم أستطع أن أمنع علامات الاستفهام التى طرحها موقف الرجل الأشيب الذى يفضل سكنى غرفة أسمنتية بلا باب أو شباك فقط فتحات تدخل إليه صقيع الشتاء على السقف والأربع جدران، من أن تعشش برأسى، ولكنى أرجأتها لحين إنتهاء جولتنا وتسليم عم إبراهيم أولا إلى دار رعاية.
إلى المستشفى
بعد أن اجتزنا كوبرى ثروت مرورا بجامعة القاهرة كنا أمام إحدى دور الرعاية المخصصة للرجال، دلفنا بالسيارة إلى الداخل حيث حوش فسيح معتنى بنظافته وتجميله بالأشجار والمساحات الخضراء، وفى بقعة منه يجلس عدد كبير من الرجال بمراحل عمرية متباينة منهم من يستمتع بكتاب ومنهم من يستمع إلى صوت أحد المشايخ أو المطربين القدامى منبعثا من راديو صغير، فرحت كثيرا أن عم إبراهيم سيكون واحدا من هؤلاء المستمتعين بالهدوء والرعاية فى ظلال الشمس الدافئة التى تغمر المكان، وما أن وصل المشرفون المسئولون عن استقبال الحالة وبدأنا ننادى على عم إبراهيم الذى كان قد أعلن أنه سيسلم نفسه لنوم عميق على المقعد الخلفى، فإذا به لا يرد النداء ولا يهبط من السيارة كما صعد بكل رشاقة، حالة من القلق انتابتنا جميعا وشعرنا أن هناك شيئا آخر بخلاف النوم، تم استدعاء طبيبة الدار وما أن وضعت سماعتها على صدره حتى أعلنت أنه يحتاج فورا للمستشفى، وبدا الرجل فى حالة إعياء شديد، ورغم أن الاحتمال المرجح وقتها أن يكون حالة كورونا إلا أننى لم ألحظ أى تراجع أو ندم من فريق التدخل السريع وتأكدت بنفسى أنهم يعملون بقلب إنسانى داخل قالب وظيفى، تم تنحية أى مشاعر خوف من العدوى، وعلى الفور قفز الجميع ومنهم السائق وأنا إلى مقاعدنا، لنبدأ رحلة العلاج والإطمئنان على صحة الحالة، مستشفى بولاق العام لم يكن بعيدا، وفى اتجاه الطوارئ بدأنا نهرول بحثا عن المعنيين، وفى الطابق الثانى وجدنا موظفا يخبرنا بأن المستشفى لم يعد به استقبال طوارئ وأنه تحول إلى مستشفى عزل بالكامل مخصص فقط لحالات كورونا، غادرنا المبنى إلى مبنى مجاور ثم عدنا إلى المبنى الأول مرة أخرى لمقابلة المدير الذى أعاد علينا نفس الكلام السابق، فطلبنا أن يتم فحص المريض فإذا تبين أنه حالة كورونا يتم حجزه، وبالفعل تم لنا ما أردنا، وللأسف أثبت الفحص أن الرجل مريض كورونا وأنه يحتاج لدخول العناية المركزة، تركناه للرعاية الطبية بعد تسجيل جميع البيانات وغادرنا.
مفاجآت وإصابات!
الخوف من الأمراض المعدية التى قد تحملها حالات المشردين ليست هى الخطر الوحيد الذى يتهدد العاملين بهذه المهمة، فكما تروى حنان عبدالستار نائب رئيس فريق التدخل السريع : ذهبت إلى حالة سيدة مسنة تقيم بغرفة أسفل السلم بأحد العقارات بحدائق القبة بناء على بلاغ من شخص، وبينما أحاول الدخول والتحدث إليها فإذا بها تغلق الباب بسرعة وقوة فى وجهى مما أدى لإصابتى بشبه إغماء وجرح بالجبهة من شدة الارتطام، وتضيف: حالة أخرى كانت مقيمة مع طفلها بالشارع وما أن اقتربنا منها أنا وزميلتى حتى فوجئنا بها تخرج لنا سكينا كبيرا من وسط الفرش والبطاطين، فأطلقنا ساقينا للريح، وتضحك قائلة: «ظللنا نجرى وهى تجرى وراءنا».

عضو التدخل السريع وزميلته يرافقان الحالة إلى «دار الخير»
وهنا تعلق «عبير صلاح» ـ عضوة بالفريق ـ حتى لو كان الشخص لا يعانى أى اضطرابات نفسية، فلابد خاصة مع طول البقاء بالشارع أن يصبح أكثر عنفا وعدوانية، لدرجة أنه ربما يشعر بالخطر لمجرد اقتراب أى شخص منه، مشيرة إلى تعرض المشردين أيضا لاعتداءات فى أوقات متأخرة ليلا، وهناك حالات كثيرة منهم كانت تتعرض للتهديد من لصوص وبلطجية للاستيلاء على أية أموال بحوزتهم، أما النساء والفتيات فيمكن أن يتعرضن للاغتصاب، وتضيف عبير: أحيانا يطول اليوم ونحن نبحث عن مكان بالمستشفيات، وهناك حالات نجدها فى وضع صحى سيئ، فهناك سيدة كانت مصابة بـ «غرغرينا»، وأخرى قرحة فراش شديدة، والمبهج أنهم يستردون صحتهم الجسدية والمعنوية بعد استقرارهم بدور الرعاية، ولكن أيضا هناك حالات تموت بعد وصولها بساعات أو أيام، فينتابنا حزن شديد وحسرة لأننا لم نعلم بهم ونصل إليهم قبل فوات الآوان.
ومن المتاعب والصعوبات كذلك، تقول شيرين فاروق: قد تتشكك الحالة فينا، فالبعض يظن أننا جئنا لنقبض عليه، والبعض لا يصدق أنه سيذهب إلى دار بها كل الاحتياجات، وأنه سيجد طعاما وشرابا دون أن يكون مطلوبا منه أداء عمل شاق، وتضيف: لا نملك سوى الإقناع والترغيب للحالة، ومن يرفض «المأوى» لا نستطيع أن نجبره، وتضيف: أحيانا تكون «الحرية» هى كلمة السر فى رفض الذهاب لدار والتقيد بنظام معيشى، فى حين يجد المشرد حياة الشارع أكثر حرية وفوضى بالإضافة لتكسب المال من المتعاطفين، وللأسف يكون تعاطفهم وحسن نواياهم سببا فى تفضيل الشارع رغم قسوة ظروفه على أى مكان.
بلاغ كاذب
أما أغرب المتاعب فتأتى على لسان «يوسف» رئيس فريق التدخل الذى كثيرا ما يتحرك لموقع بلاغ، كما حدث أخيرا لرجل سبعينى يقيم بالمقطم، أبلغ أن زوجته طردته ويحتاج للذهاب لدار رعاية، يقول: فور وصولى للمنطقة أغلق الرجل هاتفه، ظللنا نبحث ونسأل عنه حسب الوصف دون جدوى، ويضيف: نحن نتعامل مع أى حالة يُكتب عنها على مواقع التواصل، وهنا أود أن أنبه إلى اكتشافنا الكثير من المبالغات فى قصص حققت تعاطفا رهيبا مع الناس، واتضح أن حقيقة ظروفهم ليست بالضبط كما تمت روايتها.
رفض المأوى
أكثر من رحلة رافقت فيها فريق التدخل السريع، كانت إحداها إلى ميدان سفنكس بالمهندسين، حيث تجلس امرأة خمسينية قمحية اللون إلى جوار أعمدة الكوبرى، وإلى جوارها صبى يلف جسده ببطانية ويغط فى نوم عميق،كان أول سؤال من نجاة محمود إبراهيم لفريق التضامن: هو أنتوا حكومة ؟ وبعد أن فهمت الأمر رحبت بشدة بشرط أن يكون ابنها محمود معها، وأوضحت أنها تأخذ معاشا عن والدها بعد طلاقها نحو ألفى جنيه، ومع ذلك فهى لم تستطع أن تستمر فى دفع إيجار الشقة، وفى الطريق إلى «دار الخير» بشارع ناهيا، قالت نجاة إن لديها ابنة أخرى ولكنها تعيش مع خالها وزوجته منذ صغرها، بدعوى أنهما يخففان عنها ضغط الإنفاق، خاصة أنهما لم ينجبا، ولكنهما يرفضان استقبالها.
«سمر» رغم الأحزان
صعدنا لتسليم الحالة وهناك وجدنا ما أشبه بحفلة سمر تجمع كل الموجودات بالدار على اختلاف أعمارهن وأحزانهن، إلا أنهن يتجمعن لسماع الأغانى والتصفيق والرقص أيضا، بحنان أموى بالغ دعوننى للجلوس وسطهن، وبدأت كل منهن تجذبنى لأسمع حكايتها، فهذه «ماما فوزية» كان لديها بيت جميل ولكن ضاق صدرها من عقوق أبنائها وسوء معاملتهم لها رغم أنها مريضة سرطان، فقررت الخروج بلا رجعة فى منتصف الليل، وتضيف: لم أكن أعرف سوى سيدنا الحسين، ذهبت إلى هناك وجلست أمام مسجده بالشارع أبكى وأشكو حالى إلى أن شاهدنى شاب وتحدث إلى وقام بالاتصال بفريق التضامن ولم تمض ساعات حتى كنت هنا فى الدار، ورغم أن حديث الذكريات كان موجعا لدرجة أنها أجهشت بالبكاء إلا أنها عادت لتهدأ، وتستجيب لهزار المشرفات ومداعبتهن لها.
أما شوقية عبدالكريم فتقول: أنجبت بنتين وولدين، ومع ذلك لم أجد الراحة مع أى منهم، فذهبت بنفسى إلى مقر الوزارة بالعجوزة وطلبت منهم أن يوفروا لى مأوى يريحنى ما تبقى من عمرى.
أما «مبروكة» فهى سيدة تجاوزت الخامسة والثمانين من عمرها، وكانت تعمل لدى إحدى الأسر، ولما بدأت صحتها فى التدهور تخلوا عنها كما تخلى عنها زوجها أيضا وطلقها، وهناك سيدة أخرى فى التسعين من عمرها، ولكن لم تتوفر أى بيانات عن هويتها، وحالة أخرى لسيدة مصابة بشلل رباعى، سئم ابنها من رعايتها، فتركها ذات يوم عند الجيران وسافر بعد أن باع الشقة، فلم يجدوا بدا من الاتصال بالتضامن أيضا.
أما مديرة الدار الحاجة «هانم السيد» فلديها الكثير من التجارب المبكرة فى التعامل مع النساء الموجودات بالشارع قبل تأسيس وإشهار الدار، فكانت تأخذهن بمساعدة بناتهن ليستحممن ويأكلن وتحضر لهن ملابس جديدة، إلى أن توسلت إليها إحداهن ألا تتركها للشارع مرة أخرى، ومن هنا قررت استئجار شقة صغيرة بحى بولاق لسكن هذه السيدة، وكانت تترك بيتها وأولادها لتبيت معها، ثم مع الوقت تحولت الشقة لدار تحوى العديد من الحالات لفتيات ونساء، وتقول: الشارع خطر جدا على المرأة بصفة عامة وأنا عندى حالة فتاة حامل لأنها كانت تبيت بالشارع، ونوفر لها رعاية صحية ومتابعة حتى تلد. المهم تركنا الحالة «نجاة» وهى مبسوطة ولا تصدق نفسها، إلا أن المفاجأة أنه بعد مرور نحو عشرة أيام عدنا نسأل عنها، لنعلم أنها غادرت بعد أن اشترطت أن تعيش فى شقة بمفردها، معلنة أنها ستعود للشارع مرة أخري!!
عقاب التشرد
فكرة رفض الجدران الأربعة وتفضيل البقاء ليل نهار بالشارع بحثا عن الحرية أو رغبة فى استدرار العطف وجمع المال، دفعتنى للبحث عن قوانين تنظم هذا الأمر، فسألنا المستشار عصمت العيادى الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة الذى كشف لنا بالفعل وجود مرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945المعدل بالقانون رقم 157 لسنة 1959 يعرف فى مادته الأولى المتشرد: بأنه من لم تكن له وسيلة مشروعة للتعيش، كما ينص فى مادته الثانية على عقاب التشرد بالوضع تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل على ستة شهور ولاتزيد على خمس سنوات، وفى حالة العودة تكون العقوبة الحبس والوضع أيضا تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن خمس سنوات، كما أجاز القانون فى مادته الثالثة للقاضى أن يصدر حكما بدلا من عقوبة المراقبة يقضى بإنذار المتشرد بأن يُغير أحوال معيشته التى تجعله فى حالة تشرد.
ويضيف المستشار العيادي: بالنسبة للطفل الذى يقل عمره عن 15 سنة فقد تم استثناؤه من أحكام التشرد، ويطبق عليه بدلا من ذلك أحكام قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008 ومما ينص عليه فى مادة 96 على كون الطفل معرضا للخطر إذا وجد فى حالة تهدد سلامة التنشئة الواجب توافرها له وكذلك إذا وجد متسولا، أو إذا لم يكن له محل إقامة مستقر أو كان يبيت فى الطرقات أو فى أماكن غير معدة للإقامة، وإذا خالط المنحرفين والمشتبه فيهم، أما العقاب فيكون الحبس مدة لاتقل عن ستة أشهر وغرامة لا تقل عن ألفى جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من عرض طفلا للخطر.
تغليظ عقوبة التسول
ويأتى التسول من ناحية أخرى كواحد من أهم أسباب تفضيل المبيت بالشارع، وبسؤال على الدش محام بالنقض أوضح أن التسول فى ذاته لا يترتب عليه وحده نتائج قانونية متعددة الأوصاف بما يجعله يندرج تحت حكم التعدد المعنوى الناشئ عن النشاط الإجرامى الواحد الذى عنته الفقرة الأولى من المادة 32 عقوبات بل إنه إذا اقترن بجريمة التشرد يكونان معاً جريمتين وإن تميزت كل منهما عن الأخرى إلا أنهما يرتبطان ببعضهما ارتباطاً لا يقبل التجزئة، مما يوجب اعتبارهما معاً جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشدهما عملاً بالفقرة الثانية من المادة 32 عقوبات. وأضاف أن القانون المصرى نظم مشكلة التسول بالقانون رقم 49 لسنة 1933 المعروف باسم «قانون التسول» والذى نص فى المادة الاولى منه على المعاقبة بالحبس مدة لا تجاوز شهرين كل شخص صحيح البنية ذكرًا كان أم أنثى يبلغ عمره 15 سنة أو أكثر وجد متسولاً فى الطريق العام أو المحال العمومية ولو ادعى أو تظاهر بأداء خدمة للغير أو بعرض ألعاب أو بيع أى شيء.
ويضيف الدش: لما كان الإنذار المنصوص عليه بالفقرة الأولى من المادة الثالثة من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 لا يعد عقوبة أصلية بل هو من التدابير الوقائية التى يقصد بها حث المحكوم عليه به على الإقلاع عن حالة التشرد عن طريق تهديده بتوقيع العقاب عليه إذا تمادى فى غيه وذلك بغير تقييد لحريته أو فرض أية قيود عليه، ومن ثم فلا وجه لمقارنته بالعقوبات الأصلية أو إعماله بوصفه بديلاً عن العقوبة المقررة أصلاً للجريمة فى نطاق تطبيق المادة 32 عقوبات،
حيث إن تلك القوانين غير كافية لمواجهة هذه الظاهرة، ولما كان ذلك فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب بمشروع قانون بشأن تعديل على مشروع القانون رقم 49 لسنة 1933، من قانون العقوبات على عدد من المواد لمكافحة ظاهرة التسول، من خلال تغليظ العقوبات الوارد فى القانون محل الذكر والتى لا تتناسب مع الوقت الحالى، ومن أهم التعديلات الموجوده بمشروع القانون، أنه سيتم معاقبة بالحبس مدة لا تجاوز سنة كل شخص صحيح البنية ذكرًا كان أم أنثى يبلغ عمره خمس عشرة سنة أو أكثر وجد متسولاً فى الطريق العام أو المحال العمومية، ولو ادعى أو تظاهر بأداء خدمة للغير أو عرض ألعاب أو بيع أى شيء، كما يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز 6 أشهر كل شخص غير صحيح البنية وجد فى الظروف المبينة فى المادة السابقة متسولاً فى مدينة أو قرية لها ملاجئ وكان التحاقه بها ممكنًا.
علاج دون إقامة
لم يكن ممكنا أن نترك نقطة نبذ المريض النفسى المشرد، وتركه هائما على وجهه بالشوارع، دون تفسير، سألنا الدكتور مصطفى شحاتة استشارى الطب النفسى والإدمان والذى كان مديرا لمستشفى العباسية للصحة النفسية حتى أشهر قليلة، هل صحيح أنه هذا الشخص غير مرحب به بالمستشفي؟
أجابنا بأنه لم يكن يمانع من أن يأتى التضامن بالحالة للكشف عليها وعلاجها، بشرط عدم الإقامة الدائمة لسببين، أولهما: أن القانون يمنع إيداع المريض النفسى بدون موافقة أهله، وثانيهما أن شغل أسرة المستشفى بمشردى الشوارع، لن يمكنها من استقبال حالات جديدة وعلاجها، موضحا أن الأصل أن المريض النفسى لا تكون إقامته على سبيل التأبيد، وإنما بعد استقرار حالته، يمكنه المغادرة، ويقول إنه شخصيا وقت توليه المنصب حاول التوصل لبروتوكول تعاون بين الجهات المعنية بهذه الحالات وهى: التضامن، والصحة، والداخلية، مشيرا إلى أن دور الأخيرة يتمثل فى توثيق بيانات عن الحالة لأنه يحدث كثيرا أن يكون المريض قد خرج هائما من بيته، ولم يستطع العودة كما لم يستطع أهله الوصول إليه، وكذلك تُعتبر الشرطة ـ وفقا للقانون ـ نائبا عن أهلية المريض النفسى فى اتخاذ قرار الإيداع، وقال الدكتور شحاتة: المستقر النهائى لهذا المريض هو دور الرعاية، وكنا سنسلمه إليها فى حالة مستقرة دون أن يكون خطرا على نفسه أوعلى الآخرين، ولكنهم بدورهم يرفضون خوفا منه.
وأضاف أنه على استعداد بمبادرة شخصية منه، أن يقدم إشرافا ومتابعة مجانية لأى حالات نفسية منهم توجد بدور الرعاية، فضلا عن استعداده للخروج مع فريق التدخل السريع فى حملاته بالشوارع.
وختاما يجب أن نعلم أن من يأخذون بشغاف قلوبنا لأنهم نائمون على أرصفة الشوارع فى برد الشتاء، وفى قيظ الصيف، منهم من خرج للشارع «عامدا» ومنهم من خرج إليه «مجبرا» وفى الحالتين يجب أن يكون تفاعلنا فقط بالاتصال بالجهات المعنية لمساعدتهم إما على الفوز بسقف وأربعة جدران، وإما لمنعهم من التحول لمشردين ومتسولين، يحترفون ابتزازنا.
رابط دائم: