لم ينكر الكاتب المبدع وحيد حامد يوما أنه كان يسير فى طفولته حافى القدمين، يتلمس تراب الأرض المصرية، فى قريته «بنى قريش» بمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، طوال الطريق من منزله البسيط فى قريته حتى مدرسته «شنبارة»، تلك الرحلة اليومية المنهكة لفتى صغير، علمته الارتباط بتراب الأرض وطميها، خصوصا مع رائحة الندى الكثيفة فى الصباحات الشتوية، من تربى فى القرى لا يمكن أن ينسى تلك الرائحة يوما ما، فهى تختلف تماما عن رائحة المطر، رحلته اليومية للمدرسة ومن خلال الطريق الزراعى عرف معنى البراح، والتأمل،والحلم، كما أنه عرف نهم القراءة من خلال مكتبة المدرسة الصغيرة، التى عمل فى تنظيمها وترتيبها مع المدرس المسئول.
وصار واحدا من عشاق تراب الوطن الكبار الذين أجادوا رسم خريطته، وتشريحها على مدى خمسين عاما من الإبداع، ليس ذلك فقط بل كان يملك روح الاستشراف يتوقع الكثير، ويدرك ما ستكون عليه الأمور مستقبلا، وكان هذا الأمر طبيعيا بالنسبة له، فهو محمل برائحة الوطن الطيبة، التى ظل يبحث عنها وسط دخان وغبار القاهرة وكتلها الأسمنتية، ولكنه اكتشف رائحة أخرى لتلك المدينة المعجونة بالسحر والدفء والحب والخير والشر والفساد، والكثير من التناقضات التى رصدها، هو واحد من القلائل الذين كانوا يجيدون معرفة رائحة المدن وأرواحها.
ولعل الأبيات الجميلة التى نظمها الشاعر الكبير الراحل محمد عفيفى مطر فى مجموعته «يتحدث الطمى»، الذى عاش تجربة مشابهة، يمكن أن تعبر عن حالة وحيد حامد، إذ يقول:
«ويا ريحنا المقمرة
ضعى ساعديك الرقيقين حول المدينة
لكى تُسمعيها صدى قبلة الطمى والشمس
والغيمة العابرة».
أو كما قال فى ديوان «من مجمرة البدايات»:
«صبى ضائعٌ فى الريف ينهش صدره الداءُ
وحيد القلب مهجورٌ وفارغتان كفّاهُ
غريق الأمس، ليت الأمس يهجره وينساه
غريب اليوم، دوّخ عمرَه الطوفان والألمُ»
لم تفارقه تلك الحالة يوما ما منذ اللحظة التى قرر فيها ركوب القطار قادما من محافظته إلى القاهرة «1962»، وحتى لحظة رحيله «2 يناير 2021» ظل المبدع وحيد حامد يعيش فى رحلة متصلة الفصول، محملة بالكثير من الأحلام والأمنيات والحب والصدق حيث كان محبا لكل ما يفعل صادقا فى كل ما يكتب وهو ما انعكس على أعماله السينمائية والإذاعية والتليفزيونية دوما تتبع من بطل يقوم برحلة ويحلم سواء أكانت رحلة حقيقية أو مجازية، أو رحلة داخل النفس وتساؤلات وجودية أو مجتمعية، فأبطاله دائما يتنقلون ويحلمون بالمفاهيم الإنسانية الحق، والعدل، والخير، يبحثون عن الطمأنينة، وأيضا يحملون روح المغامرة.. متمردون.. عنيدون، يحاولون طوال الوقت أخذ حقهم المسلوب مرة بالقانون، وأخرى بأيديهم عندما يقف القانون عاجزا، تقريبا معظم أعمال عراب السينما وكبيرها مليئة بهذه الثيمات والتى سنجدها فى معظم اعماله السينمائية والدرامية.
الرحلة.. والحلم
فى بداياته المبكرة خلال سنوات السبعينيات وبعد أن ترك كتابة القصة القصيرة وبدأ رحلته مع صياغة السيناريو كتب مسلسله الشهير «أحلام الفتى الطائر» من بطولة عادل إمام، وعمر الحريرى، ورجاء الجداوى، ورجاء حسين وآخرين وإخراج محمد فاضل. صاغ حامد شخصية بطله «إبراهيم الطاير» «بحركة يديه المميزتين على شكل أجنحة» والذى كان يحلم بالمال، ولا يتورع فى خداع عصابة بأكملها ويخبئ المال وتبدأ رحلته فى الاختباء داخل مستشفى الأمراض العقلية، ثم الهروب مع رفيق العنبر الطبيب المتهم بمحاولة قتل زوجته، ومن خلال رحلة هروبهما يتكشف لنا الكثير من التغييرات المجتمعية، والفساد الذى بدأ ينخر بقوة فى المجتمع، وانهيار الكثير من القيم، فالصراع هنا بين لصوص كبار ولص أصغر كل حلمه أن يعيش بشكل آدمى.
أما فى مسلسله البديع «سفر الأحلام» إخراج سمير سيف فنحن أمام شخصيات مختلفة تسكن «بنسيون» فى تلك المدينة الضاغطة جاء كل منهم للبحث عن هدف، عن حلم ما من خلال رحلته داخل تلك المدينة، التى باتت تشهد تناقضات مرعبة نتيجة سياسة الانفتاح الاقتصادى واختلال القيم المجتمعية، وبداية انهيار الطبقة المتوسطة فهناك الشاعر المحبط، والمرأة التى تبحث عن زوجها الذى أصابته التحولات المجتمعية بلوثة عقلية، والغفير الذى صار تاجر عملة، وأستاذ أنيس صاحب البنسيون والموظف بالمعاش، الذى كان يعمل موظفا فى السكك الحديدية جسده «محمود مرسى» «لاحظ الحضور الطاغى لفكرة السفر والرحلة من خلال الشخصية الرئيسية» وغيرها من الشخصيات.
وفى فيلمه المميز «الإنسان يعيش مرة واحدة» اخراج سيمون صالح وبطولة عادل امام ويسرا نحن أمام بطلين كل منهما يعيش رحلة هروب لأسباب مختلفة الدكتورة الشابة أمل التى تهرب من القاهرة إلى السلوم بعد أن توفى خطيبها فى حادث، ولم تستطيع أن تفعل شيئا لإنقاذه، ومدرس التاريخ هانى «لاحظ تاريخ» الذى يعانى الاحباطات الكثيرة وتراجع وضع المعلم نتيجة لاختلال المعايير المجتمعية وظروف العمل وبيئته والشعور بعدم التقدير، إلا أنه يعيش فى دوامة وفراغ نفسى وعاطفى، ويتجه نحو الشرب ولعب القمار، ويتم نقله إلى السلوم كنوع من العقاب. يلتقى الاثنان فى القطار، وفى السلوم يتعرفان بعم بكرى «على الشريف» الصعيدى الهارب من الثأر، ويعيش عزلة اجبارية وخوفا مرضيا.
وفى فيلمه الرومانسى المميز «أنا وأنت وساعات السفر» اخراج محمد نبيه، تلتقى سلوى سيدة مجتمع «نيللى»، بعزت «يحيى الفخرانى» الكاتب الصحفى، الذى كانت تحبه فى أيام الجامعة، ولكنها تفضل عليه رجلا شديد الثراء، وفى رحلتها بالقطار إلى الإسكندرية يلتقيان مجددا فكيف يكون اللقاء بعد كل هذه السنوات، ويتبادلان الاتهامات، فعزت الذى لم يتزوج ويعيش على ذكريات الماضى يتهم سلوى أنها باعته مقابل المال، وهى بالمقابل تشكك فى مصداقية ما يكتب وانه قد يبيع نفسه أيضا، قصة الحب أيضا تكشف حجم التحولات للشخصيات واللهاث وراء المال وما أصاب القيم الإنسانية من تدهور، وهو ما نكتشفه من خلال ساعات الرحلة التى تجمع الاثنين. أما فى فيلمه الأيقونة «البرىء» اخراج عاطف الطيب ومن بطولة أحمد زكى، وممدوح عبدالعليم، والهام شاهين، ومحمود عبدالعزيز وآخرين، فى هذا الفيلم الذى يعد من أهم 100 فيلم فى السينما المصرية نخوض مع أبطال العمل رحلة مختلفة وهى رحلة البحث عن الحرية والعدالة وقهر الأبرياء والحالمين بالعدل، بطلنا أحمد سبع الليل «أحمد زكى»، فلاح بسيط محدود الأفق يرصد الفيلم تفاصيل حياته اليومية فى قريته بدقهة، إلى أن تبدأ رحلته فى النزوح للقاهرة بالقطار مصطحبا ابنه قريته وشقيقه حسين رفيق صباه تفاصيل الرحلة فى القطار، وبعد أن يوصل الأمانة يتجه لتسليم نفسه لقضاء خدمته العسكرية، فهو الفلاح ابن الأرض التى لا يعرف متعة تضاهى العمل فيها، ويقضى خدمته حارسا فى معتقل سياسى بالصحراء.
ويرى بنفسه أبناء الوطن يزجون فى السجون. وعندما يسأل سبع الليل.. من هؤلاء المواطنون، ولماذا يتم التنكيل بهم تأتيه الإجابة بأن هؤلاء هم أعداء الوطن فيتحول إلى سبع فى مواجهتهم إلى أن يجد نفسه وجها لوجه أمام حسين رفيقه وابن قريته الطالب الجامعى، ثم تبدأ رحلة التحولات عندما يعرف سبع الليل الحقيقة ويملك الوعى الكافى لإدراك الأمور.
رحلات المبدع وحيد حامد وأحلام أبطاله كثيرة ومتنوعة، بعض أبطاله يخوضون رحلتهم ويسلكون دروبا ضد الفساد وشبكات المصالح «الغول»، واللعب مع الكبار»، أو التطرف «طيور الظلام»، ويكشفون حال المجتمع والفروق الطبقية وتآكل الطبقة المتوسطة وكيف أن الفقير أصبح يزداد فقرا والغنى يتوحش ويصبح أكثر ثراء من خلال «المنسى»، و«ديل السمكة» من خلال رحلة كشاف النور مسعد اليومية. جميعها أفلام مهمة محملة بالتساؤلات وتمس البسطاء لأنها قضاياهم الحياتية، وسيظل وحيد حامد واحدا من أهم أعمدة جيل السبعينات الذى قدم سينما تحمل الكثير من المتعة والجرأة والنقد السياسى والمجتمعى، ولا يمكن تخيل السينما المصرية دون وحيد حامد ونستطيع أن نقولها بضمير مستريح إن السينما المصرية فقدت كبيرها وأحد أكبر المدافعين التنويريين المهمومين بقضايا الوطن.
4 أفلام كتبها الكاتب الراحل، ولم ترَ النور، وهي: «العبّارة»، «الملك فاروق»، «دهموش» و«34 يوم» عن موقعة كبريت فى حرب السادس من أكتوبر. فيلم آخر هو «الصحبة الحلوة» كان من المفترض تصويره فى فبراير الماضى فى أحد فنادق الغردقة وتأجل التصوير بسبب ظروف جائحة كورونا ومن بطولة يحيى الفخرانى، ومحمد سعد، والإخراج لساندرا نشأت
وكان الكاتب الراحل قد انتهى من صياغة 7 حلقات من الجزء الثالث من مسلسل «الجماعة» من كتابته. ومشروع فيلم «بيكو» عن رواية «قيس ونيللى» للكاتب الراحل محمد ناجى.
رابط دائم: