رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

غد أفضل..
الرحلات الافتراضية..تتحدى طبول الحرب

دينا عمارة

غادر بلاده وهو فى ريعان شبابه مجبرا على ترك عائلته, هرب من ويلات الحرب ومآسى التقسيم فى باكستان لعله يجد فى الهند السلام المنشود. وبعد 73 عاما, جرفه الحنين إلى الوطن، فعاد الباكستانى هارى أناند مرة أخرى إلى قريته الصغيرة, وأول شىء وقعت عليه عيناه كانت عبارة من سطرين كتبها له أفراد عائلته تقول «عيد ميلاد سعيد, أهلا بعودتك للمنزل», كانت سعادته بالعودة غامرة, فقرر القيام بنزهة صغيرة, تجول فى الشوارع التى حملت فى أركانها ذكريات طفولة دافئة: فهنا كان يقطف المانجو من الشجرة الكبيرة فى حقل خارج منزله, وهنا كان يجتمع مع أولاد الحى الصغار فى مباراة كرة قدم مسائية, أما ذلك المبنى العتيق, فكان مدرسته التى تلقى فيها تعليمه الابتدائى وقضى أجمل أيام طفولته, وقبل أن تفيض عيناه بالدموع, نزع أناند نظارته الافتراضية الضخمة, وعاد مرة أخرى إلى أرض الواقع، ليجد نفسه مازال فى غرفة معيشته المتواضعة فى الهند.

 

لا تنخدع بالرحلة, فأناند لم يذهب «فعليا» إلى باكستان, رغم أن عائلته كانت تنوى أن تهديه إياها بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده التسعين لولا انتشار الفيروس اللعين. ما قام به العجوز الباكستانى حقيقة كانت رحلة «افتراضية» قدمها له 4 طلاب من جامعة أوكسفورد, وهم من مؤسسى مشروع «داستان», تلك المبادرة غير الهادفة للربح, التى بدأت فى عام 2018, وهدفها ربط اللاجئين من الهند وباكستان بقراهم الأصلية عن طريق وسيط وهو «الواقع الافتراضى». ولتبسيط الفكرة, يستخدم مشروع داستان شبكة واسعة من المتطوعين لتعقب منازل وقرى الطفولة الخاصة باللاجئين وتصويرها بكاميرا فيديو بزاوية 360 درجة, ليتم عرضها عليهم بعد ذلك كمقاطع فيديو غامرة على سماعات الواقع الافتراضى.

محاطا من جميع الجوانب بالصور المتحركة, شعر أناند كما لو كان يتجول فى قريته, ويرى مشاهد مألوفة لم تكن موجودة إلا فى عقله لسنوات, لاحظ أن الكثير قد تغير, لكن بدت أنها تغييرات جيدة, «إنه أمر رائع للغاية أن أرى هذا التحسن الكبير فى قريتى», هكذا قال.

كانت طفولة أناند فى قرية داروكة, التى باتت تعرف الآن بمقاطعة البنجاب الباكستانية, بسيطة ومباشرة كما يقول. كانت البنجاب فى ذلك الوقت منطقة بها عدد كبير من السكان المختلطين من الهندوس والمسلمين والسيخ, وكانت عائلة أناند من الأقلية الهندوس فى القرية, ورغم ذلك فقد كانت العلاقة بين الهندوس والمسلمين ودية للغاية, وكان المسلمون يحضرون أعراس الهندوس والعكس صحيح, لم يكن هناك نزاع

فى عام 1947, وصلت التوترات إلى نقطة الغليان فى موطن أناند «البنجاب», وذلك بعد أن قرر البريطانيون, قبل رحيلهم, أن يأخذوا على عاتقهم رسم خط على الخريطة لم يكن موجودا من قبل, أحد الجانبين سيصبح الهند ذات الأغلبية الهندوسية, والآخر باكستان ذات الأغلبية المسلمة.

تسبب ذلك فى أكبر هجرة جماعية فى تاريخ البشرية, ووسط التوترات الدينية المتفاقمة والعنف, فر ملايين الهندوس والسيخ الذين يعيشون على الجانب الباكستانى إلى الهند, وسافر ملايين المسلمين فى الاتجاه المعاكس, ونزح ما يقدر بـ 14 مليون شخص, وقتل ما بين مليون ومليونين آخرين.

مشروع داستان والتى تعنى «قصة» فى العديد من لغات جنوب آسيا, جاء كمبادرة تهدف إلى بناء السلام وتعزيز الحوار بين ثقافات البلدين, فعلى الرغم من أن العديد من الهنود والباكستانيين يتحدثون اللغات نفسها ويشتركون فى تاريخ واحد, لكن العلاقات المتوترة بينهما جعلت التفاهم المتبادل صعب التحقيق, فجراح التقسيم عميقة. واليوم لاتزال الهند وباكستان متشككين بشدة فى بعضهما البعض, لقد خاضوا ثلاث حروب كبرى منذ عام 1947 وحتى عام 1971, ولكل طرف ترسانة نووية وقوات عسكرية مصفوفة ضد الآخر, لذلك فإن الحصول على تأشيرة للسفر عبر الحدود العسكرية أمر صعب على مواطنى أى من البلدين حتى فى أفضل الأوقات, ومن هنا جاءت فكرة «الرحلات الافتراضية», فقد كانت الطريقة الوحيدة للتحايل على تلك القيود المادية.

«ندرك جيدا أننا قد لا نكون قادرين على إحلال السلام بين الهند وباكستان من خلال هذا المشروع, ولكن الأمر يتعلق بحسن النية وإيجاد الروابط المشتركة, وإذا استطعنا استخدام ذلك كقاعدة, فربما يمكننا إجراء حوار على مستوى إنسانى بحت», هكذا يرى مؤسسو المشروع الذين أدركوا,عندما بدأوا بالتحدث إلى الناجين من التقسيم, أن الرواية الشائعة عن العداء الدينى المنتشر لم تكن الصورة الكاملة, فتجربة الواقع الافتراضى جعلت النازحين يتذكرون الجوانب الإيجابية للقصة, وأنه ليس لديهم أى عداء تجاه الأشخاص فى قراهم ومجتمعاتهم.

الآن, وبعد مرور ما يزيد على 7 عقود, صار الجيل الجديد من اللاجئين هو من يأخذ على عاتقه تغذية الأحقاد المذهبية والدينية, لذلك يعتقد مؤسسو المشروع، أن «داستان» يمنح الجيل الثانى والثالث, فرصة لإضافة بعض الألوان إلى قصص آبائهم, وربما فهم أصولهم بشكل أفضل, فهى إجابات للتاريخ أيضا. يخطط مؤسسو مشروع داستان للتوسع فى الفترة القادمة بعد رفع قيود الإغلاق, فقد تم إجراء مقابلات مع أكثر من سبعة أشخاص من النازحين حتى الآن, تم التوصل إليهم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي, ومن المقرر أن يسافر الفريق إلى كل من الهند وباكستان, بالإضافة إلى بنجلاديش، التى غالبا ما يتم تجاهلها من القصة, لجمع اللقطات وتصوير فيلم «طفل الإمبراطورية» فى محاولة لتوثيق القصص للأجيال القادمة. كما يحتوى المشروع على تجارب الواقع الافتراضى لـ 16 لاجئا إضافيا قيد التنفيذ, ويأمل فريق العمل فى إكمال 75 مقابلة بحلول عام 2022 والتى ستصادف مرور 75 عاما على التقسيم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق