رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الليلة الخامسة بعد الهدنة

منى العساسى

ليلة طويلة قاسية ومؤرقة، بدأت عندما دبّ فى نفسى شغف مباغت لسماع صوتك، للإبحار فيك، فعداد وصالنا أصبح مرتبكًا ومذبذبًا للغاية، لا أحد يعلم متى سيبدأ بإحصاء لحظاتنا الأخيرة؟ ولا متى سيتوقف؟

بكل شجاعتى حاولت الضغط مرة أخرى على اسمك المتجسد أمامى فى صورتك الحية، صورة تنبعث منها حرارة جسدك عندما تركض بجوارى، بكل طاقتك للحاق بالقطار «955»، أشعر فيها بنبض قلبك يكاد يتفجر بعروق كفك الممسك بكفى، أتأمل احمرار وجهك وشفتيك الممتلئتين، كأنهما تحترقان بلهيب أنفاسك المتسارعة.

ضغطت بأنامل مرتجفة على شاشة الهاتف المضيئة أمامى التى يستفز فيها اسمك شوقى، راجية أن يأتى صوتك، معلنًا لى بهجتك بوصالى، فإذا به ينطلق بأذنى كصفَّارة إنذار بعاصفة قد حلت، عاصفة تكسرتَ فيها كجزع شجرة نخره السوس منذ أعوام، فقدتُ فى صوتك صوتى وانتفض قلبى حتى شعرتُ أنه مغادر صدرى لا محالة، أغلقتُ الهاتف وأنا أعى ولا أعى، أهذى وألعن الحظ والظروف، أتساءل مندهشة.. أى حياة تلك التى نحياها، أى خراب هذا الذى تخشى عليه مِنِّى؟!.

جلستُ فى سريرى أتأمل ملامحك المنهكة، لا أستوعب، قلبى يتمزق وأنا أشعر بالعجز تجاهك، أستحضرك أمامى فى وسادة، أضمك وأضع رأسك العجوز على صدرى وأهدهد عليك كطفل، أبكى حتى يتثاقل جفناى، يلف الدوار رأسى، وهو ينكفئ فوق رأسك، يأخذنى إلى قرار بعيد فى عمقى.. عمق مقداره عشرون سنة، ربما هو عمر ذاكرتى.

عشرون سنة من الوحدة الممزوجة بانعدام الثقة والخوف، الخوف من الرفض، من الإبعاد، من عدم القبول، من الفراق والهجر.

الخوف الذى يجعلك فريسة سهلة لكل عابر سبيل يبتزك باسم الحب، الخوف الذى يجعلك تبذل كل شىء، كل رخيص وغالٍ مقابل البقاء، مقابل القبول والحب غير المشروط.

الخوف ذاته الذى يجعلنى أحبك بكل هذا التطرف.

رجفة مفاجئة أصابت جسدى الغارق فى هذيانه جعلتنى أستفيق من غفوتى، رفعت رأسى مفزوعة أتفقدنى، استعذت بالله، شربت بعض الماء، وأخذت نَفَسًا عميقًا، وأرخيت رأسى للخلف، أتساءل:

ما الذى ذهب بى إلى هذا البعد لأمُرَّ ببطء فوق هذا الجسر، وأمامى عشرون عامًا من الخذلان؟ خيل لى أنى أرانى هناك على قارعة الطريق وحيدة فى الظلمة، أستغيث وما من مجيب، لكن هذه المرة لم تكن أنا، كان يتردد صدى اسمها فى حلقى، حروف مرة تحترق مبعثرة فوق أطلالى كبقايا هشيم.

الليلة الحادية عشرة

بعد الهدنة

خمسة عشر عامًا تطل عليَّ من نوافذ الذاكرة، فتاة ابنة السبعة عشر عامًا، بخيباتها وانكساراتها، بأحلامها المقتولة وتخبطاتها، بتمردها وضعفها وقلة خبراتها.

أتتنى متثاقلة الخُطى باكية، منهكة استهلكتها الأيام، وأرهقتها الخيارات الخاطئة، بدت كمَنِ استفاقت من الموت، تردد بصوت مختنق ونفس متقطع:

صلبان الخوف التى سُندنا عليها منذ ميلادنا خشية الخطأ، وحدها كفيلة بأن توقعنا

ضحايا لكل خطأ محتمل، كفيلة بأن تصيبنا بالخرس، وتضعنا على مقصلة الحياة، فلا تكف عن جلدنا، ولا نكف نحن عن جلد ذواتنا.

نظرت له بعيون عاجزة وتمتمت:

نحن نتعثر فى الحياة أحيانًا عثرات قاتلة..

لا نستطيع التخلص من أثرها النفسى فينا، مهما بلغنا من نضج ووعى.. نحن نتاج سلسلة طويلة من التراكمات لا حصر لها، من الانتهاكات الجسدية والنفسية والأخلاقية والتربوية والاجتماعية.

يمشى كل مَنْ فى هذه الحياة ليصل لعمر الستين أو السبعين، وهو يحمل فى داخله قنابل موقوتة من طاقة سلبية تتحرش بها العديد من المواقف فى كل يوم نفتح فيه أعيننا لاستقبال الحياة.

رفعت رأسها الثقيل، فوجدته يجلس قربها يسمع هذيانها، سألته بعين برقت فيها لمعة دمعة حاصرتها: هل نُخلق فى هذه الحياة فقط لنعانى، لنتمزق فى كل لحظة بين ما نريده وما نعيشه بالفعل، بين ما يرضينا وما هو مفروض علينا، بين قدراتنا المحدودة وطموحنا اللا محدود؟!

لم تسمع منه كالعادة سوى جملته الهادئة: أنت جميلة جدًّا.

ثم افتعل حوارًا عن ياسمينته الصغيرة، وكم زهرة تفتحت

احتفلا بها:

واحدة.. اثنتان.. ثلاث.

يهديها الأزهار والقبلات وقهوة الصباح..

وتذوب معه فى التفاصيل الصغيرة، ثم ترسل نظراتها فى الفضاء الواسع أمامها وتسأله:

لِمَ لا يمكننا التحليق.. لِمَ نحن مُكبَّلون بألف قيد هنا؟.

ثم تعود فتنظر له فى شوق، غاضبة:

لماذا لم تتصل هذا المساء؟.. افتقدتك بشدة!

خيَّم عليها الصمت حينًا، ثم أردفت بنبرة ثقيلة:

أنا لا أعلم مقياسًا ثابتًا لفلسفة الموت والحياة، لكن عليك أن تدرك أن كل خاطر يأخذنى إليك حياة، كل صباح يأتى بك حياة، كل جرس أو رسالة تليفونية تحملك إلىَّ حياة، كل لقاء يجمعنى فيك حيوات متعددة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق