تتفرد الحداثة بأبنية ثقافية غير قابلة للهدم، فهى برؤاها وأخيلتها وتقنياتها مشحونة بالتمرد والثورية، مفتوحة على الفعل التأثيرى المستمرّ، العابر للأزمنة. وإلى هذه الخلخلات المراوغة، الهازئة بالاستقرار الجمالى والثابت المعرفى والراسخ المنهجى.
تنتمى تجربة الشاعر والكاتب والمترجم رفعت سلام، أحد أضلاع حركة السبعينيات المصرية والعربية، التى فجّرت المشهد الإبداعى والثقافى بقراءة جديدة للذات والواقع، فى ضوء انكسارات وتشرذمات لم تقدر معطيات الستينيين على استيعابها وتمثلها تحت مظلة قناعاتهم بالقضايا القومية والشعارات الكبرى والتطلعات الرومانسية والمقولات الجماعية اليقينية. بروح المغامرين، خاض رفعت سلام رحلته الشعرية منذ اضطلاعه مع رفقاء جيله فى تأسيس جماعة «إضاءة 77» الشعرية، وعبر دواوينه الغزيرة التى افتتحها بـ»وردة الفوضى الجميلة» (1987)، واختتمها بـ«أرعى الشياه على المياه» (2018)، متعاطيًا مع اللغة بحساسية خاصة وتوترات تعكس ذبذبات الذات الهائمة فى نسق كونى سريع الانهيار، فصاحب «الإشراقات» و«هكذا قُلتُ للهاوية» و»كأنها نهاية الأَرض»، يخطو دائمًا عكس اتجاه الريح، وشجرته «تنمو من كتابات وَحُمَّي»، وينادى الكائنات من موضعه المجهول: «هَذَا جَسَدِى، فَكُلُوا، هَذَا دَمِى، فَاشرَبُوا».
لمواجهة الدروب الوعرة المتشابكة، لجأ سلام؛ الشاعر المتمسك بالمقاومة، إلى الخرافة والحلم أحيانًا، واستدعى تاريخ الإنسان منذ براءته الأولى، وأعاد ترتيب الأزمنة. هو ليس انجرافًا استسهاليًّا إلى الماضى المنصرم، بل جدلية تفاعلية مع الماضى المستمر، الذى يعزز قدرة البشر على مواجهة العالم، الماضى الحى، الذى يُثرى العقل والروح، منذ صرخة «الفلاح الفصيح» مطالبًا بالعدل والحرية فى مصر القديمة.
هكذا يبدو الزمن فى اشتباكه بالحضور الإنسانى الخصب، ويتمثل التاريخ الواحد، بغير تجزئة، ويتراكم حصاده الحضارى والإنسانى بالوعى الجمعى. وفى هذا السياق، تأتى القصيدة طاقة محرضة على الاحتجاج والاقتحام ودفع الأقدام إلى الأمام، مهما تعثرت بالمطبات وأثقلتها القيود: «لَكَ السَّـلاَم/ هَا أنتَ تُطلِقُنِى غَزَالاً رَاكِضَ الخُطوَاتِ/ يَفتَتِحُ الفُصُـول/ لَكَ السَّـلاَم/ هَا أنتَ تُدخِلُنِى المَدَائِنَ وَالقُرَى مِن غَيرِ سُـوءٍ/ أدخُل البَلَدَ المَنِيع/ فَيَحتَفِى الفُرسـَانُ بِي/ وَمَوَاكِبُ الخَيلِ، الطُّبُولُ، بَيَارِقُ النَّصرِ، الأغَانِي/ أرتَدِى جَسَدًا جَدِيدًا/ وَالمَوَاوِيلُ، الأهَازِيجُ، اشتِعَالُ البَهجَةِ الكُبرَى/ فَألوِى الرَّكبَ نحوَ مَضَارِبِ الفُقَـرَاء».
لتقديم جداريته الشعرية الضخمة، تنقل رفعت سلام بين ثيمات شتى، التقت فيها أنواع وأجناس وإيقاعات، وامتزجت أصوات وتعددت عوالم، وتحاورت متون وهوامش، فتارة يكتب قصيدة الـ»صولو» أو العزف المنفرد، أى قصيدة اللقطة أو المشهد البسيط، النثرية، المكثفة، وتارة يكتب نصوصًا متعددة الأصوات، تتفتت فيها الأنا وتتشظى، وتتحاور مستويات تعبيرية متباينة. وفى هذا وذاك، حرض سلام على النجاة من الذهنية والقصدية والتعمد. إن آراء سلام كمثقف ومواقفه كإنسان تفيض بالنزعة إلى التغيير، ما جعل دوره الثقافى ممتد الأثر، فمن مقوّمات تجربته أن الكلمة هى الوقود الحيوى الذى لا ينفذ، والثقافة هى التى تؤسس لأى حراك مجتمعى طليعى، حيث إن التمسك بقيمة الرفض وفلسفة المعارضة والاحتجاج (بمعنى الانتقاد الإيجابى الإصلاحي) هو دور يناط بالمثقفين فى الأساس، سواء من خلال مواقفهم العملية أو من خلال كتاباتهم ورفضهم الاندراج فى حظيرة التدجين والمهادنة والانتفاعية والقبول بالأمر الواقع. كما احتفظ سلام باستقلاليته كمثقف، لكنه فى الوقت ذاته آمن بأن الفن لا يقوم بمعزل عن الواقع.
رابط دائم: