فى بيوت تتساند على جانبى الوادى، وفى قلب الدلتا وحواليها، مازال عشرات الملايين من المصريين يعيدون إنتاج الحياة مع شروق كل شمس.
هنا.. وسط هذا البراح الممتد بين صدر الأرض وأبواب السماء، يعتصر ملايين المواطنين أرزاقهم من عروق الصخر ويعيشون تحت خيمة «الستر» التى صنعوها بأيديهم من زراعة ما تيسر من «فتات الأرض» ومن تربية الماشية والأغنام والدواجن.
هنا دورة اقتصادية كاملة، لا يمكنك أن تعثر فيها على «كائن» يعطى ولا يأخذ، أو يأخذ ولا يعطى.. ولا يمكنك أن تصادف فيها إنسانا فقد قيمته أو مبرر وجوده.
هنا الجدات لا تقعدن فى زوايا النسيان، وكل أم كبيرة يأتيها أجلها وهى ساعية، تعجن وتخبز أو تعلف بقرتها وتسقيها وتغسل ضرعها بماء دافئ قبل أن تحلبها: «لبنا خالصا سائغا للشاربين». حتى الأطفال يمارسون ألعابا منتجة: ينثرون الحبوب للدواجن ويجمعون البيض الطازج من «المراقد» ويحتضنون الماعز، ويحملون «خضار البط» فى أكفهم الصغيرة فرحين بعطاء الله.
ولأن الحقيقة دائما أكثر بعدا وعمقا مما تلتقطه العيون العابرة، فسوف يظل الريف المصرى نائما على أسراره التى لا تمنح ذاتها إلا لمن عاش فى طينه وأكل خبزه وشرب ماءه وتوضأ من ندى صباحاته. فخلف كل صورة فاتنة ووراء كل منظر خلاب أياد خشنة ووجوه راضية. لكن هذه الأيادى والوجوه الأكثر إنتاجا والأقل دخلا، مازالت هى السماد الذى يخصب تربة الحياة، وهى الدماء التى تجرى فى عروق الأرض، وهى الطاقة التى بدونها لن نعيش لنتحدث عن الريف الذى كف عن الإنتاج وعن الفلاحين الذين أصبحوا عالة على سكان المدن!.
رابط دائم: