نشأت فى أسرة متوسطة لأب وأم متفاهمين، ولى ثلاث أخوات (الكبرى تكبرنى بعامين، والوسطى تلينى بست سنوات، ثم الصغرى التى أكبرها بثلاثة عشر عاما)، ولنا ابنة عم عاشت معنا منذ صغرنا، وهى أخت لى فى الرضاعة، وجمعنا «بيت عائلة» يضم الأعمام والعمات، وأبى أكبر أخوته، وتزوج فيه، وتولّت أمى شئون البيت بالتعاون مع جدتى، وربطتهما علاقة قوية وكأنها علاقة أم بابنتها، مما ساعد على استقرار العائلة، ولم أرها يوما متبرمة، ولا متذمرة، واكتملت هذه الصورة الجميلة بأداء أبى دوره على أكمل وجه تجاه أخوته قبل أبنائه، وانعكس ذلك علينا فعشنا سنوات فى سعادة وسرور، ثم كشرت لنا الأيام، فظهرت مشكلات أظهرت «سواد» قلوب أعمامى وعماتى، ومواقفهم المعاندة لنا، ولم يتوقف الأمر عند حد العائلة، وإنما امتد الخلاف بينى وبين أمى، فكنت عندما أتدخل فى شأن يخص إحدى أخواتى، تقف لى بالمرصاد، وتمنعنى من التدخل، واستمررنا على هذا الوضع، وصرنا مجرد أشقاء بمشاعر عادية، ولم أشعر بأى مسئولية تجاههن.. صحيح أن أبى موجود، لكنى وجدت أننى مسئول بشكل أو بآخر عنهن، وعلى الأقل يجب الاستماع إلى وجهة نظرى ووضعها فى الاعتبار، وللأسف لم أجد آذانا صاغية، فحتى رأيى فى عريس أختى الكبيرة لم يعتد به، وأثبتت الأيام صحة رأيى فيه، ثم فى خطبة أختى الثانية لم يحرصوا على إقامتها فى وجودى، حيث كنت مسافرا إلى الخارج فى مهمة عمل، وسمعت الجملة المكررة «طالما أبوها موجود مفيش حد تانى مهم»!، وهكذا وجدتنى معزولا عن الأسرة، فكتمت أحزانى فى نفسى، وركزت همى فى عملى. ومرت الأيام وكبر أبى فى السن، وأدارت الدنيا وجهها عنه، وأصبح قليل الرزق، وغاب عن اهتمام أخوته الذين ابتعدوا عنه، ولم يشعر أحد منهم به أو حتى يطمئن عليه، وتولّد «خلاف دائم» مع أمى بخصوص المصروفات، وتزامن ذلك مع زواجى، واستقرارى فى العمل بإحدى الجهات براتب بسيط يكفى بالكاد متطلباتى أنا وزوجتى.
وذات يوم استدعتنى أمى إثر مشاجرة دبت بينها وبين أبى الذى لم يتمالك أعصابه، وانهال ضربا فيها، وفى أخواتى، ووجدتنى فى موقف لا يحتمل الصمت، ولا «تكبير الدماغ» كما يقولون، واستيقظت داخلى «المسئولية الأدبية» التى وددت أن أتحمّلها بالنسبة لأخواتى، وقلت فى نفسى: «ها أنا أمام مسئولية أكبر، ومهمة أصعب بتحمّل نفقات الأسرة، وكفى أبى ما عاناه فى حياته من متاعب، وتوليت مسئولية البيت، وطلبت من أمى عدم الحديث مع أبى فى أى مسائل مادية، ومنذ ذلك اليوم أقبلت على العمل بكل ما أوتيت من صحة وجهد، وخصصت الجزء الأكبر من دخلى لأبى وأمى وأخواتى، وكافأنى الله بعمل خارج البلاد، وكنت أزيد فى المصروفات بما أستطيع إلى أن رحل أبى عن الحياة منذ عشر سنوات.
وجرت فى النهر مياه كثيرة، وحدثت مشكلات كثيرة بين أختى الكبرى وزوجها، وظهر أمام أمى على حقيقته، لكنها عاندت وكابرت عندما أبلغتها برأيى فيه عندما تقدّم لخطبتها، فلقد طلّقها، لكنها تعيش فى بيتها، ورزقها الله بعمل جيد تصرف منه على ابنتها وتساعدنى أيضا فى مصروفات أمى وأخوتى، وتزوجت أختى الوسطى، وأمورها مستقرة، وبقيت أختى الصغرى، وكان حظها قليلا من ناحية العرسان الذين يرغبون فى الزواج بها، ولم يحالفها التوفيق مع من تقدموا لها إلى أن ظهر شخص منذ خمس سنوات يقطن بنفس شارعنا، ولكنه للأسف غير مناسب لها ولا لعائلتنا، ولا يليق لنا الارتباط بأحد من عائلته، بل إننى أعتبر مجرد التفكير فى أن يتقدم لها إهانة لنا، إذ نتمتع بسمعة طيبة فى الشارع والمنطقة كلها، بينما هذه العائلة معروفة بالبلطجة وانعدام الأخلاق، وافتعال المشاجرات لأتفه الأسباب، ويكفى أن أقول إنه تندلع «خناقة» كل يوم فى الشارع بسبب أخوته أو أمه، ومن قبلهم أيام زمان أبوه وأعمامه.
المهم أننى رفضت مجرد مناقشة الموضوع بسبب هذا النسب، ولم أدخل فى أى تفاصيل، ولم أهتم بما يعمل ولا بما يملك، وطوال السنوات الخمس، كلما فتح الموضوع أغلقه على الفور بالطريقة نفسها، ودون مناقشة أى تفاصيل، ودأبت أختى على إرسال كل من تعرفه لكى يقنعنى بالموافقة عليه من باب أنها بلغت الثالثة والثلاثين من عمرها، وتخشى أن يفوتها قطار الزواج، وقد اقتنع الجميع بموقفى، إذ أرى أننى لو وافقت عليها سأكون قد رميتها فى النار!، وتصورت أنها سوف تمتثل لرأيى، وتدرك مدى حرصى على مستقبلها مع هذه العائلة، لكن يبدو أن أبى وأمى لم يحسنا تربيتها، إذ كانت على تواصل مع هذا الشاب طوال السنوات الخمس، وهذا ما عرفته أخيرا، وقد أفهمتها أن أباها مات ورأسه مرفوعة فى المنطقة، وأنها إذا أصرّت على هذه الزيجة، فهذا يعنى أنها ستتخلى عن أخوتها، فنحن جميعا نرفض ارتباطها بهذا الشخص، واعتقدت وقتها أنها ستفكر فى الأمر، وتدرك مدى خوفنا عليها، فإذا بها تتنازل عن أخوتها، وتصر على استمرار علاقتها بهذا الشاب، فلقد لجأت إلى أعمامها وعماتها لتزويجها له دون موافقتى أنا وأختىّ، وقد تمكنوا من إقناع أمى بتزويجها له، وداست على كل شىء جميل بيننا و«رمت» عشرة ثلاثة وثلاثين عاما، ونسيت كل شىء عملناه من أجلها، فأختى الكبرى جهّزتها، كما لو أنها ابنتها، واشترت لها لوازم «الجهاز» حتى قبل أسابيع قليلة من خطبتها، أما أنا فقد رفضت بيع ميراثنا من أبى، وهو مبنى أعدت «توضيبه»، وافتتحته حضانة لها، لكى تتسلى فيها وتحتك بالدنيا، ويكون عائدها لها، ولا يشاركها فيه أحد، ورفضت أن نأخذ منها أى مساهمة فى البيت، وقلت لها: «طول ما أنا موجود، مصروف البيت مسئوليتى، والفلوس دى بتاعتك».. وإنى أسألك: هل أخطأنا معها، وما الذى يدفع البنت إلى أن تستغنى عن عائلتها بهذه السهولة للزواج بشخص غير مناسب؟، ولماذا تخلت أمى عن ابنها «الوحيد» وكسرته أمام أهل المنطقة الذين يعرفون أننى فى مقام والدها، وشقيقها القائم بمسئوليتها، وأننى أرفض هذه الزيجة؟.. إننى أهرب من الناس، بل وأشعر بالخجل من ابنتى، وهى ترى ما فعلته عمتها فى أبيها الذى قدّم لشقيقته كل شىء، وفى النهاية خرجت عن «طوعه»، وأصبح موقفها حديث أهل المنطقة!
ولولا أن أمنا مريضة وقعيدة لكان لنا موقف آخر، فحرصا على سلامتها آثرنا الصمت، لكننا ابتعدنا عنها، ولم نعد نزورها خشية أن ننفجر فيها لموافقتها على هذه الزيجة على غير إرادتنا، واكتفينا باعتبارها غير موجودة فى حياتنا.. ألسنا على حق فى موقفنا؟، وما الذى تشير علينا به فى هذه المشكلة الشائكة؟.
> ولكاتب هذه الرسالة أقول:
فى الحقيقة الأهل هم الأقدر ـ عادة وغالبا ـ على تحديد من يصلح للزواج من ابنتهم؛ فالغالب على الفتاة، هو قلة العلم والخبرة بالحياة، وقد تنخدع ببعض الكلمات، فتحكم عاطفتها دون عقلها، وهذا ما حدث مع أختك المتمردة التى انخدعت بما ردده على مسامعها الشاب الذى لاحقها من أجل الزواج، وسمحت لنفسها بالتواصل معه، فارتكبت خطأ قد تدفع ثمنه، ولو بعد حين، ويتحمّل أعمامك وعماتك مسئولية هذه الزيجة مع أمك التى استجابت لضغوطهم، ولم تلق بالا لرأيك أنت وأختيها، فالواجب على كل فتاة ألا تخرج عن رأى أهلها إذا كانت أسبابهم منطقية فى الرفض، وعليهم أن يحسنوا الاختيار، والحقيقة أنه لا يمكن تصنيف رجل من خلال معلومات متواترة أو نقاش حادٍّ قد يكون له ما يسوغه، فالعبرة بالخلق والدين، وليعلم الأهل قول رسول الله: «لم نرَ للمتحابَّيْن مثل النكاح»، وعلى البنت طاعة أهلها، فهم أدرى بمصلحتها، ولا يريدون إلا أن تكون سعيدة مع زوج يراعى حرمتها ويعطيها حقها، وأرجو ألا تظن أختك أنك لا تريد لها الخير بعد كل ما قدمته لها، وعليك أن تمد جسور التواصل معها، وأن تستجيب لها، وأن تؤازرها ولا تتخلى عنها أنت وأختاك، ففى النهاية هى منكم وبكم.
وإذا كانت أمك قد استجابت لضغوط أعمامك وعماتك، فلم يكن ذلك إلا نزولا على رغبة أختك، وكل شىء قابل للإصلاح، فليست الصفات المذكورة عن عائلة فتاها بالضرورة موجودة فيه، وما يحدث هو التوارث لبعض الصفات من القرابات المباشرة، ولم يقل أحد أن الإنسان يأخذ جميع خصائص من حوله، فكل مولود يولد على الفطرة، والمعنى المقصود هو ضرورة أن يحرص الإنسان على حسن الاختيار، وقال أحد الحكماء: لن أتزوج من امرأة حتى أنظر إلى ولدى منها، فقيل له: وكيف ذلك؟، قال: لأنها سوف تلد مثل أبيها وأخيها، فالقرابات المباشرة هى التى تكون لها آثار، والواقع يشهد بأن بعض الأسر ولدوا أخيارا والعكس، والصحابى عبدالله بن عبدالله بن أبى سلول صحابى من أهل الإيمان أخرجه الله من رأس المنافقين، وكثير من الفضلاء ولدوا لآباء لئام!، وابتلى الله بعض الطيبين بأبناء فاجرين، فلا تركن إلى ما سمعت عن عائلة الشاب الذى يرغب فى الزواج من أختك، واقترب منه أكثر لكى تتعرف على تركيبته الشخصية، وسلوكه العام، ولا تأخذه بجريرة أهله، فإذا تأكدت من أنه صادق، فلا بأس من أن تتواصل معه بما فيه مصلحة أختك، أما إذا تبين لك العكس، فيجب أن تطلع أختك على التفاصيل التى توصلت إليها بشأنه، ووقتها سوف تتراجع عن موقفها، وتكون على يقين من أن زواجها به محكوم عليه بالفشل.
وإننى أحيى فيك دأبك وإصرارك على أداء دور الراعى والمسئول تجاه أمك وأخواتك اللاتى سعيت إلى مساعدتهن قدر استطاعتك، وسهرت على تلبية متطلبات المنزل حتى فى وجود أبيك، ولاشك أن حاجة أختك إليك الآن ليست مادية بقدر ما هى معنوية، فهى تحتاج إلى وجودك النفسى ودعمك لها والاستماع إليها، ودرء الخطر عنها، والسؤال عن أخبارها وأمورها والمصادقة معها، فالأخت التى تتدلل من أبيها وأخيها تخرج إلى بيت زوجها واثقة ومرتاحة، ولا ينتفى حقها هذا بزواجها، فهى ستبقى أختك أبد الدهر، كما أن إكرامها والإحسان إليها بعد زواجها يشد أزرها ويرفع رأسها أمام أهل زوجها ويجعلها أقوى مما كانت من قبل، وفى بعض الأحيان يخفف تمادى أهل الزوج عليها ويجعلون لها قيمة.
وكم هو جميل أن تكون علاقتك بزوج أختك طيبة وقائمة على الاحترام؛ فالمشترك بينكما الأخت، واحترام زوجها من احترامها، وهى تحب مهما يكن الأمر «طلة أخيها» ودخلته إلى بيتها التى تعطيها قوة، ومن هنا يجب عليك أن تدعمها إذا ظلمها زوجها أو أساء عشرتها، فأنت حاميها وخط دفاعها الأول، وفى كثير من الأحيان يرتدع الزوج عن أفعاله إن وجد الأخ واقفا له بالمرصاد للصد عن أى أذى تتعرض له الأخت.
وعليك أن تمنحها الشعور بالأمان، فدلال الأخ له نكهة خاصة ترغبها كل فتاة، وتتباهى به، مع الرفق واللين والنصيحة فى حالة ارتكاب أخطاء، فكل فرد معرّض للخطأ، فإن هى أخطأت يجب أن تكون أمين سرها وناصحها ومرشدها وموجهها، فتحس بأنك السند والداعم لها، والأخ الذى يحتوى أخته ويستوعبها يملأ عليها حياتها، ومن ثم لا تلجأ إلى شخص آخر.
وتفجّر رسالتك قضية مهمة تتعلق بدور الوالدين فى «التوافق» بين الأخ وأخواته، فيجب أن يحثاه على حسن التعامل معهن، وألا يفرقوا فى المعاملة بين أولادهم الذكور والإناث لتشعر البنت أن لها قيمة ومحفوظة بوجود أبيها وأخيها بجانبها، وحث الأخ على هذه العلاقة الطيبة باستعمال عبارة «أختك، اهتم بها وساعِدها وعاوِنها»، والأهم من ذلك أن يدعمها وأن يصل رحمه بوصلها، وأن يعززا اهتمام الأخ بمصالح أخته، والاطمئنان عليها، والسؤال عن أخبارها، وكلما عزّز الأبوان الاحترام فى التعامل بين أفراد الأسرة يتربى الأبناء فى جو تسوده المودة.
ومن الأمور السلبية أن بعض العائلات ترى أن الأخ يستطيع أن ينتهك حرية أخته، وأن يؤذيها بحكم أنه «الذكر القوى» وهى الأنثى الضعيفة، وقد يكون هذا التسلّط ناتجا عن التربية الخطأ والمتوارثة فى العائلة عبر الأجيال، فتستمر الوصية أحيانا فى حال وجود أو غياب الأب أن الولد هو المسئول وأن له السيطرة والسلطة على البنات، فيأخذ الأولاد بهذه النصيحة، وتتشبّع لما يرونه من سيطرة للأب على الأم وعلى البنات، فتمتد المشكلة لسلطة الأخ وسيطرته على أخواته وضربهن وأذيتهن والتطاول على خصوصياتهن؛ متناسين أن النبى العظيم أوصى بالنساء خيرا، فقال «رفقا بالقوارير»، «وما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم».
إن الأخ الذى يتسلط على أخته يُعدُّ شخصا مريضا ويعانى عقدا نفسية ويحتاج إلى المساعدة لأنه غير واثق فى نفسه، وكلى يقين بأنك لست كذلك، فأعد مد جسور التواصل مع أمك، وإياك وأخواتك البعد عنها، ولا تنس ما أمر الله الأبناء به للبر بالآباء، وأرجو أن تبادر بجلسة صلح عامة مع أهلك، وأخواتك وأمك، وبدء صفحة جديدة بين الجميع بمن فيهم خطيب أختك، ولتكن فى قصتك عبرة وعظة للجميع.
رابط دائم: