عند اختيارى كى أكون ضمن دائرة النقاد الأفارقة للكتابة عن الأفلام الإفريقية المعروضة فى مهرجان
«Africa in Motion» بالمملكة المتحدة، فتحت لى نافذة جديدة لمشاهدة أفلام من الصعب مشاهدتها من خلال قنوات أخرى نظرا لخصوصية تلك الأفلام، إذ إن المهرجان مخصص لعرض الأفلام الإفريقية.
لقد شاهدت أفلاما من دول لم أكن أتخيل أنها سوف تنتج أفلاما سينمائية على هذا القدر من التميز على صعيدى الشكل والمضمون رغم ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية كأنجولا التى توقف بها الدعم الحكومى لإنتاج الأفلام بشكل شبه كامل.
وعلى الرغم من ذلك شهد منها فى مطلع العام فيلم «مكيف هواء» للمخرج Fradique ليشهد عرضه العالمى الأول من خلال مهرجان روتردام السينمائي، أو الفيلم الجنوب إفريقى Poppie Nongena للمخرج Christian Olwagen المبنى على رواية من أنجح الروايات الجنوب إفريقية المأخوذة عن قصة حقيقية.
ذلك بعد أن ظلت لسنوات طويلة الفكرة السائدة عن سينما إفريقيا السمراء هى الفكرة التى تُصَدرها الأفلام التى تنتجها دول الاستعمار القديم التى احتلت دول إفريقيا السمراء وفرضت سطوتها ليست فقط السياسية ولكن الثقافية أيضًا على تلك الدول لعقود طويلة حتى بدأت حركات المقاومة والتحرر من هذا الاستعمار فى فترة الستينيات التى اعتمدت فيما بعد على السينما كأحد أهم أدوات المقاومة الثقافية لمناهضة الاستعمار والتخلص من آثاره.
ظهرت إفريقيا السمراء من خلال تلك الأفلام بالصورة وعكسها إما أرضًا للجهل والفقر والمرض والتخلف والنزاعات العرقية، وإما أرضًا للسحر والجمال والخيال الكامن بصحرائها، أى أنها لم تكن صورة واقعية تقترب ولو من بعيد لتعبر عن مدى التجريف الاقتصادى والثقافى والاجتماعى الذى تعرضت له هذه الدول، حتى ظهر جيل من المخرجين أبرزهم السنغالى عثمان سمبين المُلقب بأبى السينما الإفريقية، والمخرج أدريسا أودراجو من بوركينا فاسو اللذين أخذا على عاتقهما محاولة إظهار دولهما ومشكلاتهما كما يرونها هما لا كما تراها عين زائرة أو مستغلة دون تجميل أو مبالغة.
وكما عانت دول إفريقيا السمراء من الاستعمار، عانت أيضًا بعد الاستقلال ــ الصورى أو الشكلى ــ من حروب أهلية ونزاعات عرقية.
وعلى الرغم من كل تلك الصعوبات، ظل صناع الأفلام الأفارقة متمسكين بأحلامهم المشروعة فى تقديم وعرض رؤاهم لمجتمعاتهم ووجهات نظرهم عن المشكلات الملحة التى تعوق أوطانهم عن احتلال المكانات التى تليق بها، والغوص فى أعماق التاريخ ودراسته، ومكاشفة العالم بما عانته تلك الدول وشعوبها على أيدى دول تعتبر الأكثر تقدمًا وتحضرًا. وفى سبيل تحقيق تلك الغايات، تسلح هؤلاء المخرجون بتعليم سينمائى متطور سافروا شرقًا وغربًا لتحصيله ثم عادوا لأوطانهم لخوض رحلات جديدة لتحرير مجتمعاتهم ثقافيًا وفنيًا واجتماعيًا فى محاولة جادة لإظهار الإرث الثقافى الثرى لإفريقيا السمراء كما يستحق أن يظهر. وقد أسهم فى وضع سينما إفريقيا السمراء على خريطة السينما العالمية العديد من المخرجين المتميزين من بينهم المالى سليمان سيسيه الذى فاز فيلمه «Yeelen» بجائزة لجنة التحكيم فى مهرجان كان السينمائى الدولى عام 1987، والمخرج الموريتانى عبد الرحمن سيساكو الذى حقق فيلمه Timbuktu نجاحا هائلًا إذ ترشح لسعفة «كان» الذهبية فى حين فاز بسبع جوائز سيزار فرنسية من بينها جائزة أفضل مخرج ليصبح أول مخرج إفريقى يفوز بتلك الجائزة.
وكنتيجة للتميز والنجاحات التى حققها العديد من أفلام سينما إفريقيا السمراء، تسابقت دول العالم الأول لتخصيص مهرجانات سينمائية لعرض أفلام إفريقيا السمراء من بينها مهرجان ميلانو بإيطاليا ومهرجان Africa in Motion فى المملكة المتحدة ومهرجان السينما الإفريقية بمدينة قرطبة الإسبانية ومهرجان السينما الإفريقية فى مدينة كولونيا الألمانية، لتصبح السينما الإفريقية خير سفير ثقافى للقارة السمراء، ليكتشف العالم إنتاجات فنية متميزة من دول فى قلب القارة لا يتوقع الكثيرون أن تكون بها حركة سينمائية أو أن تكون قادرة على الإنتاج السينمائي، فنكتشف عودة السنغال. بالإضافة إلى ما حققته السينما السودانية من نجاحات ملفتة خلال العام الماضى أيضا بعد فوز المخرج أمجد أبو العلاء بجائزة أسد المستقبل بالدورة 76 لمهرجان فينيسيا كما فاز الفيلم الوثائقى «الحديث عن الأشجار» للمخرج صهيب البارى بجائزة أفضل فيلم وثائقى للدورة 69 لمهرجان برلين السينمائى.
رابط دائم: