رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مصطفى صفوان.. الفيلسوف السّكندريّ اللَكَانيّh

د. إبراهيم منصور

درس مصطفي صفوان في جامعة فؤاد الأول (الإسكندرية ) وتخرج فيها عام 1943م، وفي سن الثانية والعشرين توجه إلي إنجلترا لكي يكمل دراسة الفلسفة هناك، لكنه في ظروف الحرب العالمية الثانية لم يجد لنفسه مكانا في جامعة كمبردج، فحوّل وجهته إلي باريس، فدرس منذ عام 1946م التحليل النفسي علي يد جاك لَكَان (1901- 1981م) لذلك أصبح الوصف الملازم لمصطفي صفوان في فرنسا والغرب اليوم هو وصف اللكَانيّ.

............................................

مصطفي صفوان كان ابنا لشيخ أزهري، درس اللغة العربية في الأزهر وأصبح مُعلّما، وهو يقول في حديث أجري معه بالإنجليزية إن والده قد يكون انتخب كأول رئيس لاتحاد التجّار، لكن المؤكد أن الشيخ الأزهري قد التحق بالحركة الشيوعية في مصر متأثرا بالحدث المزلزل، وهو قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م، وقد تزوج الأب عام 1919م، وأنجب ابنه مصطفي يوم 17 مايو عام 1921 في الإسكندرية، وقد عاش حتي بلغ عمره مائة عام تنقص بضعة أشهر، وكانت وفاته يوم 7 نوفمبر الحالي في باريس حيث كان يقيم ويعمل منذ العام 1959م.

عاش مصطفي صفوان في باريس، وكتب أغلب مؤلفاته باللغة الفرنسية، فما الذي يهمنا من أمر ذلك المتغرّب القديم ؟ والإجابة واضحة لكاتب هذه السطور، فقد عاش مصطفي صفوان بجسده في الغرب، لكن قلبه كان مع أمته العربية ووطنه مصر، فكان عقله يعمل كعقل فيلسوف، وقلمه يكتب كأديب من الطبقة الأولي، كما امتلك أدوات العالِم: من منهج علمي، ولغات عديدة (الفرنسية والألمانية والإنجليزية).

حينما نعود للفترة التي عاش فيها مصطفي صفوان في مصر وتعلّم فيها، وعمل في جامعة القاهرة بعد عودته من فرنسا، نجد أن اللغة العربية قد امتلكت تراثها الحديث ورسّخت أقدامها لغة للعلم، فقد أرسي رفاعة الطهطاوي (1801- 1873م) وتلامذته - أبناء رفاعة كما سماهم الكاتب الروائي بهاء طاهر في كتابٍ له - بناءً راسخا في حقل الترجمة الأدبية والعلمية، ومن الطريف أن بعض هؤلاء التلاميذ أرادوا للهجة المصرية أن تسهم بنصيب في الكتابة الأدبية والشعرية، فوجدنا محمد عثمان جلال (1828- 1898م) يترجم المسرحيات والخرافات بلغة قريبة التناول تكاد تكون عامية، وهو ما سعي إليه مصطفي صفوان، الباريسي اللكاني، حين نشر في عام 1989م، في مكتبة الأنجلو بالقاهرة ترجمة بالعامية لمسرحية «عُطيل» لشكسبير، أهداها إلي شخصية متخيلة من ذاكرته القديمة، إلي محمد علي عبد المولي، الذي هو في مخيلة مصطفي صفوان «خولي» أو «بواب» أو «عامل ترحيلة» قديم، وقد رأي الفيلسوف السكندري اللكاني أن هذا المحمد عبد المولي، يجب أن يقرأ شكسبير، لأن من حقه أن يقرأ شكسبير، لكن التجربة كانت صعبة، ولا أعرف أحدا ناقش العمل أو كتب عن تلك المحاولة الجديدة لترجمة شكسبير بالعامية، لكني أعرف رأي «يحيي حقي» في هذا النوع من النزول إلي القارئ، فهو يرفضه تماما.

يبدأ صفوان الترجمة بمقدمة يضع في أولها نصا للشاعر المسرحي اليوناني «يوربيدس» فيترجمه إلي العامية علي النحو التالي «احنا ما فيش داعي نتحذلق في المسائل الإلهية، علشان التقاليد اللي ورثناها عن أبهاتنا واللي عمرها قديم قدم الزمن نفسه، ما فيش حاجة تقدر تكسره، مهما اتفتت الأمخاخ السوفسطائية» ولولا عبارة «الأمخاخ السوفسطائية» لقلت لك إن هذا هو كلام مصطفي صفوان نفسه، وهو رأيه وإن نسبه هنا إلي يوربيدس العتيد.

يذكّرنا أسلوب مصطفي صفوان في الكتابة بالعامية بمحمد عثمان جلال من ناحية، وببعض الكتاب الذين يحلو لهم اليوم أن ينشروا مشاركات علي وسائط التواصل الاجتماعي بالعامية، وفيها أفكار في غاية العمق والأهمية مثلما كنت أقرأ للدكتور محمد يحيي الرخاوي، وللدكتور شريف يونس، أو لمحرر صفحة «الموقف المصري» المجهول علي الفيس بوك، ولا أدري هل كان صفوان في سنواته الأخيرة يعرف شيئا عن ذلك الأسلوب الذي انتشر هنا في مصر، ولا يختلف كثيرا عن أسلوبه في الترجمة أم لا ؟!

المدرسة التي انتمي إليها مصطفي صفوان من أبناء رفاعة، هي مدرسة « الشيوخ وأبناء الشيوخ» مدرسة محمد عبده، وطه حسين، وأمين الخولي، ومحمد عبد الله دراز، لكن فرعا منها كان قد نبت هناك وازدهر قبل أن يذهب مصطفي صفوان بعيدا في دراسة الفلسفة والتحليل النفسي. كانت تلك المدرسة العريقة قد رسخ لها فرع فيه مصطفي نظيف (1893- 1971م) وكان مديرا لجامعة عين شمس، وأحمد زكي (1894-1975) رئيس جامعة القاهرة، الذي أسس مجلة العربي الكويتية عام 1958م، وعبد الحليم منتصر أستاذ علم النبات، عضو المجمع اللغوي (1908- 1992م) وأحدهم كان أستاذا مباشرا لصفوان هو مصطفي زيور (1907- 1990م) الذي أخرج مع زميله يوسف مراد مجلة عالمية باسم «مجلة علم النفس» (1946- 1953م) كما أسّس أهم قسم لعلم النفس في الجامعات العربية، في كلية الآداب جامعة عين شمس بتكليف من طه حسين، وقد صار تلامذة زيور أعلاما في تخصصهم في الجامعات العالمية.

حينما ترجم صفوان كتاب سيجموند فرويد (1856- 1939م) «تفسير الأحلام» كتب مصطفي زيور مقدمة للترجمة العربية التي عكف عليها تلميذه، فقال «هذا الكتاب يزخر بثروة من الثقافة الغربية الحديثة والقديمة، اليونانية واللاتينية، جعلت نقله إلي العربية نقلا صحيحا أمراً مستحيلاً، ما لم يكن المترجم قد اكتسب هذه الثقافة اكتسابا أصيلا. ثم إن فرويد علي الرغم من أنه لم يكن فيلسوفا محترفا إلا أن قدرته علي الجدل العميق بلغت في بعض أجزاء هذا الكتاب مبلغا يقتضي أن يكون المترجم رجلا قد مارس التفكير الفلسفي» ولأن مصطفي صفوان يملك عقل فيلسوف، ولأنه قد امتلك ناصية اللغتين العربية والألمانية، فقد نجح من وجهة نظر الأستاذ نجاحا جعل صدور كتاب تفسير الأحلام بالعربية حدثا ثقافيا عظيما في تاريخ المكتبة العربية.

استمد صفوان من قلبه المحبّ للغته مددا، لكن مدده في مجال المصطلحات كان من هؤلاء الأفذاذ، أعلام المدرسة المصرية، الذين كتبوا في الكيمياء والطبيعة والنبات والتشريح، حتي نقلوا العربية المعاصرة نقلة لم تعرفها منذ زمن الجاحظ وابن سينا والخوارزمي، وإذا كان صفوان قد شارك أساتذته في العمل، فهو قد آمن أيضا بأن أولئك الأسلاف القدامي كانوا علماء أصحاب إسهامات عالمية في العلم الرياضي والطبيعي، والعجيب أنه قد ربط إسهامهم بالشريعة الإسلامية فكتب في مقال له منشور في مجلة إبداع في عدد أكتوبر1992م، بعنوان «التوارث الخلاق والتوارث الآسن، أو الثقافة والحكم « فقال «.. كثيرا ما يصعب الفصل بين الجانبين المعرفي والاعتقادي في الواقع، وإن تمايزا في الذهن، وربما كان من أوقع الأمثلة علي ذلك ما نعلمه من مساهمة علماء الرياضة الإسلاميين ك»ثابت بن قُرّة» و «الخوارزمي» و» الكاشي» في تطوير العلم الرياضي وهو أبعد المجالات عن الاعتقاد فإليهم يعود الفضل في نقل مركز الثقل في هذا المجال من الهندسة إلي الجبر، وأغلب الظن أن هذا التطوير لم يكن مقطوع الصلة بكثرة المشكلات المتعلقة بتوزيع التركات، وهي مشكلات ما كانت لتظهر في مجتمع يقضي بأن تؤول التركة كلها إلي الابن الأكبر وحده « لقد كتب هذا المقال بعد اغتيال فرج فودة (1945- 1992) بأربعة أشهر، وكان صفوان بدعوة من أحمد عبد المعطي حجازي يسهم في التنبيه والتحذير من سيطرة العقل السلفي بكل تفريعاته، علي مقدرات البلاد والعباد، ولكن مصطفي صفوان، لم يفته وهو يعيش في فرنسا ويكتب بالفرنسية أن يحكّم العقل الصافي للفيلسوف، والضمير اليقظ للمؤرخ فيربط هنا علي نحو فريد بين علم الجبر (رياضيات عليا) وعلم المواريث، أي توزيع التركات بحسب الشريعة الإسلامية، فيري أن المجتمع الذي عاش في ظل الشريعة أهمّته مسألة حل التعقيدات الحسابية الخاصة بالفروض أي حصص الوارثين، وكان المتخصص في هذا الفن يسمي الفارض، ومنهم والد الشاعر الصوفي العظيم ابن الفارض، وقد رأي صفوان أن هذا التطور العلمي من الصعب تصور حدوثه، في المجتمعات الأوروبية التي كانت تعطي التركة كلها للابن الأكبر، ولا مواريث ولا يحزنون.

في الظروف التي كتب فيها مصطفي صفوان مقاله، كان السائد أن يشتم الكُتّاب والمثقفون ابن حنبل وابن تيمية، لكي يدينوا الشيخ يوسف البدري والشيخ محمد الغزالي، لكن صفوان رأي أن تراثنا لا تثريب عليه، فقد كان معنيّا بحل المشكلات الحالّة في زمنها، أما الملامة فعلينا نحن الآن، لأننا لا نحكّم العقل كما حكّمه الأسلاف، وكما يحكّمهُ الأوربيون، ورأي صفوان أننا قد يكون لدينا أفراد مثقفون، لكننا يجب أن نعترف بأنه ليست لدينا ثقافة، فكانت الإدانة في حادثي الاعتداء علي فرج فودة ونجيب محفوظ لنظام التعليم ونظام التفكير، وربما لأنظمة الحكم، من حيث هي حاجبة للفكر الحر، ولذلك بدا في كلامه الرفض التام لتسفيه موروث العرب من الحضارة. وكان من دواعي نزاهته العقلية أيضا أن قال في المقال المذكور « إن رجل العلم يتضمن موقفه تسليما صريحا بأن فوق كل ذي علم عليم، هو مشرّع الكون لا مشرّع القوانين الإنسانية وحدها، فالتعارض بين العلم والدين لا وجود له إلا في كتب الفلاسفة وأدمغتهم»

دعا مصطفي صفوان للعلمانية، التي لم تكن تعني عنده استقلال المجتمع الإنساني عن الدين، فهذا أمرٌ محال، وقال في ذلك « دفعت الاشتراكيةُ غاليا ثمن جهله أو تجاهله، فالدين روح المجتمع أيا كان» كان هذا كله في سياق إثبات حاجة مجتمعنا إلي العقل لكي يكون الحَكَم، والمرجع، لذلك كتب أيضا في مقال آخر له بعنوان «الحق.. أساس الاجتماع» (الكلام باسم الحق ينقلب إلي شرٍّ محض، إذا هو ادّعي الحَجْرَ علي العقل، الذي لا يملك أحدٌ سبيلا غيره إلي معرفة الحقائق.. ولو ضَلّ)

رأينا مصطفي صفوان يترجم باقتدار إلي العربية، ويكتب بها أحيانا، ثم ألّف بالفرنسية أربعة كتب هي « التحليل النفسي علما وقضية» و « الكلام أو الموت» و « إشكالية المجتمع العربي، من منظور التحليل النفسي» كتبه بالاشتراك مع عدنان حبّ الله، وكتابه الأخير «لماذا العرب ليسوا أحرارا ؟ « الذي ألّفه من منطلق «الارتباط الطبيعي بالوطن» كما قال في تقديمه لمسرحية عُطيل. كنت أتمني أن تصدر لكتبه جميعا ترجمة مصرية، نري فيها أثر مدرسته العريقة في الترجمة، ولكن ذلك لم يتحقق.

رحم الله مصطفي صفوان، الذي عاصر وشارك في صناعة نهضة مصرية كبيرة، ولقد ظلت تلك النهضة تتضاءل حتي هرّت عليها كلاب التقليد بليل فأخافتها من أنوار العقل، وأخشي أن وقوع مصر في هذا المصير البائس، تنتج عنه مصيبة سيدفع العرب جميعا ثمنها غاليا، وإن في مراجعة تراث مصطفي صفوان منجيً لنا من تلك المصيبة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق