رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ثلاثية الطيف وفنجان القهوة والضيف

د. سمير مهدى

استيقظ من نومه كالعادة بعد العراك الطويل اليومى بينه وبين المُنبّه الذى يدق جرسه فى الموعد الذى حدده هو، يسمعه ويلعن بينه وبين نفسه هذا المنبه ومن ضبطه على تلك الساعة، يعيد ضبطه لربع ساعة أكثر، ويدق ويسمع ويلعن ويعيد، ثم يدق ويسمع ويلعن ويعيد، ثم أخيرا يستيقظ ويقوم متوجها إلى باب شقته، وأنامل كفيه تفرك فى عينيه، ينثنى ليلتقط الجريدة التى قذفها البواب إلى مدخل الشقة من تحت عقب الباب، يتصفحها متثائبا وهو يتوجه إلى الحمام ليؤدى طقوسه اليومية، يقذف بالجريدة فتسقط حيثما اتفق، إما على الأرض أو على ترابيزة السفرة المهترئة القديمة التى كانت يوما ضمن أثاث زفاف أمه، تنتهى الطقوس كلها فإذا هو أفنديا مرتديا لبدلته الوحيدة ورباط عنقه الذى يضاهى الحبل فى سُمْكه النحيل، ويتوجه إلى عمله فى ديوان الوزارة الذى يبعد عن منزله قرابة عشرين دقيقة سيرا على الأقدام.

لم يكن سالم أفندى يتخيل يوما أنه سوف يكون كاتبا فى الدرجة السابعة بتلك الوزارة، وقد كان منذ صغره من أذكى التلاميذ وأكثرهم تقديرا من كل المدرسين، ودائما يذكر لزملائه بالوزارة العبارات التى كان يكتبها أساتذته بالمدرسة الأوّلية إعجابا بنبوغه ومنها (أحسنت، وأتوقع لك مستقبلا باهرا) أو (ممتاز، وإلى الأمام يا سالم)، ثم يدلف ذلك بالترحّم على مستقبله الذى مال إلى أدنى من حيث كان يأمل له صعودا ومركزا مرموقا.

طلب سالم أفندى من عم خليل الفرّاش القهوة السادة كالعادة، ثم بسمل، ثم حوقل غير راض بوضعه متوقعا أن ينتهى اليوم كما انتهى الأمس وما قبله من أيام وأشهر وسنين عجاف، ولحين حضور عم خليل الفراش بالقهوة غاب عن وعيه مستذكرا كل ما هو ماض، قريبا كان أم بعيدا – خاب ظنه إذ لم يكن هذا اليوم كمثله من أيام – أو هكذا خيّل إليه، لقد رأى فيما يرى من يغفو أنه سيحدث فى هذا اليوم ما يجعل حياته كلها تنقلب رأسا على عقب أو عقبا على رأس، فحياته كأعزب لم تكن حياة بالمفهوم الاجتماعى الذى يحياه كل الناس بل كانت مُملة ورتيبة ومُتكررة ومُعادة تكاد تتماثل فى كل شيء، طال غياب وعيه بين ما يحياه وما كان مأمولا، متذكرا أو متفكرا أو متأملا أو غافلا أو غافيا !!

امرأة خمسينية ممتلئة بيضاء البشرة، ناضرتها، صبوحة الوجه مليحته، بصحبة عم خليل يتوجهان إلى مكتبه، يشير عم خليل إلى سالم أفندى قائلا ها هو سالم أفندي، أما هو فقد تركز بصرُه أو قل تسمّرت عيناه على هذا الطيف الذى حملته ثلاثة عقود مضت من الزمان، كان كالمسحة الحنون على جبهة مُتعبة تحمل من ورائها عقلا مضطربا، أو هو نسمة عطرة باردة على جو ساخن – آه يا زمان، لم يكن سالم أفندى يصدّق أن يوما ما سيأتى ومعه هذا الطيف المحمّل بذكريات الطفولة والصبا والشباب، لم يعبّر وجهه عن أى انفعال سوى صمت ونظرة تحمل فى طياتها دهشة وفرحة وعتاب فى آن، لم يكن هذا الطيف إلا هي، نعم هي، بوجهها الحسن، وحضورها الطاغي، وابتسامتها الفريدة، وضحكتها الراقية الرائقة – اقترب عم خليل من سالم أفندى وهى بصحبته حتى تلاقيا تماما وابتعد عم خليل قليلا وهو يقول مؤكدا:

•هذا هو سالم أفندى – أى خدمة أخرى يا هانم.

أخيرا رآها ودار بينهما ما كان يدور بينهما قديما من حلو الحديث وعذبه، وحُلم عُمْر حالت ظروفه هو – وإعراضها هى – دون أن يتحقق، لم يُعكّر صفو هذا اللقاء الممتع إلا وجود عم خليل، حيث فوجيء بعد أن استيقظ وعاد من وعيه الغائب بيد عم خليل اليمنى وهى تصُبّ القهوة فى فنجان قدّمه إليه وهو يقول: القهوة يا سالم أفندى !!

كانت غفوة أسفرت عن حُلم جميل !!

فنجان القهوة

أعاده الصوت ذو النغمة الغناء المترنمة إلى ماض جميل مضطرب يتشح الأمل فيه باللون الرمادى بعد أن أصبح بوفاة والده هو العائل الوحيد لأسرته والمصدر المرشح لدخل مرتقب، فتخلى عن استكمال دراسته الجامعية وتخلى أيضا عن ارتباطه بوداد التى كانت الأسرتان تتفقان وتتكلمان وتتحدثان وتهمسان دوما بأن سالم لوداد ووداد لسالم، ثم افترقا رغم عرضها الذى أبدته على استحياء للانتظار حتى تتبدل الأحوال، وهكذا تخلى عن أمله الدراسى وأمله العاطفى فى ضربة واحدة من ضربات القدر.

هاهى الآن تتماثل أمام عينيه، وهاهو صامت يكاد لا يصدق أنها هي، أشار عليها فى صمت أو بكلمات ارتسمت على شفتيه دون وضوح معانيها أن:

(تفضلي)

جلست على كرسى كان عم خليل قبل مغادرته قد سحبه من مكتب مقابل لا يجلس عليه موظف، هل هربت الذكرى مخلفة وراءها صمتا مبررا، أم أن كلاما وحوارا يدور بينهما ليس بظاهر فى ظاهر اللفظ بل هو كامن فى مختبئه تحت لسان لا يريد أن يهمس، صمم كلاهما أن يبدأ بالحديث وأصبح فى مأمول كل منهما أن يبدأ الآخر، فتح الله عليه أخيرا بعبارة لا يؤاخذ عليها ولا التزام فيها ولا ارتباط يكبله بها – قائلا:

(والله زمان !)

ردت عليه بما يعيد حالتهما سيرتها الأولى قائلة:

(فعلا كانت أيام !)

اعتمل فى صدره غيظ مكتوم من حظه العاثر وعتاب أو غضب من طول فترة البعاد وكأنها مسئولة عن ذلك، قال كمن فتح صنبورا تم إصلاحه بعد أن كان مغلقا وقد انسابت فيه المياه جارية:

(لمْ تصبرى على الانتظار، وانتهزتى فرصة عرضى عليك أن تبدأى حياتك مع غيرى لصعوبة ظروفي، وأجبت على استحياء بإمكانية الانتظار، وتنفست الصعداء برفضى غير الصادق لهذا الانتظار، ولم تمر أيام حتى كان خاتم الخطوبة قد قيّد إصبعك، وأصبحتُ أراك مصادفة أمام فاترينات المحلات بوسط البلد ويداكما متشابكتان، ولما وقع بصرى على ناظريك أعرضتِ واضطربتْ عيناك ووجدتِ فى النظر إلى خطيبك ملاذك وفرارك من عينيّ اللتين أنهكما بؤس الحال وعدم اتضاح المآل)

كانت أثناء حديثه ترتشف القهوة التى أتى بها عم خليل دون أن يطلبها، أو أن عم خليل قد سألها عما يقدمه لها وأنها قد طلبت قهوة، وأن كل ذلك لم يعيه ولم يتذكره إن كان قد حدث فعلا، ارتشفت آخر رشفة من قهوتها وقد تبدت بجانبى شفتيها ابتسامة ماكرة ساخرة راجية طالبة صفحا لم تبديه:

(سالم أفندى – لقد مات زوجى منذ فترة قريبة، وجئتك بناء على توصية من أحد الأقارب حتى تساعدنى فى ترتيب أوراق المعاش، ولولا هذا القريب ما كنت أعلم أين تعمل، ولم أسع إلى ذلك بمحض إرادتي، فإن شئتَ ساعدتني، وإن شئتَ دلتنى على من يمكنه مساعدتي، وإن شئتَ أيضا جعلْتنى أغادر مكتبك دون أن أحظى بما جئتُ من أجله)

لم يستمع سالم أفندى إلى أى من الكلمات التى تفوهت بها بعد عبارة «مات زوجى منذ فترة قريبة»، ولم يجد نفسه إلا قائلا:

(البقية فى حياتك)

ساد الصمت ثانية فيما بينهما، وشعَرَت بأنه لا طائل من ورائه، وأن الزمان – أو زمانه هو – قد توقف عند آخر لقاء:

(أستأذن الآن، وأبدى أسفى الشديد لما قد أكون سببتُه لك من إزعاج)

لم يجد ردا إلا أن وقف وقد تأهب لتوصيلها حتى الباب دون أن ينبس ببنت شفة، سارا جنبا إلى جنب دون كلمات من أى منهما.

وفجأة وجد عم خليل الفراش ينظر إليه مندهشا وهو يقول:

مالك يا سالم أفندى – لماذا تسير وحدك وكأنك تقوم بتوصيل ضيف إلى الباب، ولماذا تركت قهوتك على مكتبك؟ القهوة زمانها بردت يا سالم أفندى

مرة أخرى تنتابه ذات الحالة، عاد من وعيه الغائب، ولكنه هذه المرة لم يكن فى غفوة أسفرت عن حُلم جميل، ولكنها أسفرت عن حوار مبتور بينه وبين نفسه !!!

الضيف

عاد سالم أفندى إلى بيته بعد أن سار بذات الطرق التى يخترقها يوميا ساعة العودة من عمله الروتينى التقليدى الرتيب الذى تنعكس روتينيته المكتبية على باقى يوم سالم أفندي، فسلك ذات الطريق، ونظر إلى ذات اللافتات، واعتلى ذات الطوار، ووقف متأملا أناسا يتشاجرون، وانثنى لالتقاط ورقة كان يحسبها ورقة نقدية فخاب ظنه وفشل مسعاه، ثم وقف أمام الفاكهى يتأمل أصنافه وقد وضع كفه اليمنى على أسفل ذقنه كأنه يفكر فى أى من تلك الأصناف يشتري، وقد لمحه الفاكهى وهو جالس أمام محله على كرسى من القش غير عابئ بما عليه سالم أفندى من تفكير وكأنه يعلم مسبقا أن هذا التفكير وتلك الحيرة سوف لا تسفر عن شراء شيء كعهده به كل يوم، وفعلا قطع سالم أفندى السكون بأن عاد إلى سيره الروتينى المضطرب دون أن يشترى شيئا.

وصل إلى شقته فى ذات التوقيت الذى يصل إليها فيه كل يوم، وشرع فى تنفيذ ذات الطقوس التى ينتهجها يوميا، إلى أن فرغ إلى مطبخه فأخذ فى تسخين وجبته وخبزه، وجلس على ترابيزة متهالكة بالمطبخ أمامها كرسى واحد وأخذ فى تناول وجبته، وانتهى من تناول غدائه، ثم قام إلى غسل الأوانى التى استعملها ووضعها على رخامة المطبخ القديمة، وأخذ يبحث عن الكنكة وعلبة البن والسكر، وفتح الغاز على العين الصغري، ووضع الكنكة عليها بعد أن ملأها بالقدر المناسب من الماء، ووضع البن ونصف ملعقة من السكر، وأخذ يقلب الماء والبن والسكر إلى كاد الخليط أن يغلى فرفع الكنكة من يدها الخشبية قليلا عن العين حتى يحتفظ بـ (وش) القهوة قبل أن تفور، وصب الخليط فى الفنجان، وجلس على ذات الترابيزة المتهالكة فى المطبخ، وأمامه فنجان القهوة وقد تصاعد منه خيط رفيع من البخار وكأنه دخان أبيض أخذ سالم أفندى يتأمله وقد رجع برأسه قليلا على ظهر الكرسى وراح فى تأمل وهو فى غفوة، أو أنه كان فى غفوة متأملة.

سمع طرقا خفيفا على الباب، استُتبع بدقات من الجرس، فقام فى تراخ، فتح الباب فإذا هى أمامه، هى مرة أخرى ؟ نعم هي.

قال فى صوت خافت: وداد؟

أجابت: أخشى أن أكون قد أزعجتك.

رد عليها وقد اعتلت الدهشة كل كيانه: بيتك ومطرحك – تفضلي.

أفسح لها، ودخلت وكأنها تعلم تفاصيل منزله معرفة أصحابه، سار وراءها بعد أن فتحت غرفة (المسافرين) جلست وجلس قبالتها – ودار بينهما حديثٌ ذو شجون.

قال وكأنه يفتح مجالا لحديث يخترق به صمتا قصيرا: أهلا وسهلا.

أجابته: سالم – قصدتك اليوم وقد خيبت ظني.

رد عليها لومَها بتعبير مناسب من وجهه قائلا: شرفتينى فى مكتبي، وازددت شرفا بك فى منزلى هذا.

قالت فى عتاب: تقصد الذى كان سيكون منزلنا – لولا ...

قاطعها قائلا: ها قد عدنا إلى عتاب لا يُجدى لوقائع لا ذنب لكليْنا فيها.

أجابته: هل يستطيع الزمن أن يعيد ما انقطع أم أننا قد بلغنا من العمر ما يقف حائلا دون تحقيق ذلك؟

أجابها قائلا: إن السبب الذى حال دون ذلك قديما، قد تأصل وتجذر واستفحل وأصبح سدا منيعا دون تحقيق ذلك – حديثا.

قالت: كأن الماضى كان أيسر.

قال : بل الحاضر هو الأصعب.

أعاد سالم أفندى نفسه من ظهر الكرسي، ونظر حوله فلم يجد إلا نفسه فقط وأمامه فنجان القهوة ذاته دون الخيط الرفيع من البخار الذى كان يتصاعد منه منذ لحظات.

تيقن قبل أن يقوم من مقامه أن ذات الطيف قد طاف به، وجالت فى مسامعه كلمات عم خليل حين كان فى مكتبه وهو يقول له: القهوة زمانها بردت يا سالم أفندى !!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق