مائة عام من الحيرة واليقين والترقب والملاحظة والتأمل والإحباط والمراجعة والسؤال والشرود والأمل والألم والاستغراق والمواجهة والتحدى والثقة والاطمئنان والقلق والحدة والسكينة.
...............................
مائة عام يحملها الفيلسوف الفرنسى «إدجار موران» على كاهله .. تاريخ وأفكار ونظريات وصدامات وإلتقاءات وأسفار جاب خلالها أقطار الأرض، لكن ما ضعف وما استكان فمازال يلوح بصوته الجهورى محذراً من مجاهل المستقبل وأعاجيبه ومفارقاته، لم يتوان فى أن يقدم مشاركة فكرية تتوج رحلته فى فضاءات الفكر رغم شحوب الأيام وتنكر الزمن وخيانة الذاكرة. لكن .. ألم يتساءل موران إن كان طول العمر قد منحه فرصة نادرة بحيث لم يبق لديه شيئاً يقوله أو يكتبه؟ وهل اتسق مشروعه الفكرى كماً وكيفاً مع هذا العمر المديد؟ وما هى الأفكار المسكوت عنها تحت لسانه والمختبئة بعقله طبقاً لدرجة حساسياتها؟ وما هى الأصداء المدوية لمشروعه على العقل الغربي؟ بل ما هى درجة الرضا الذاتى عنه؟ وهل يماثل عمر القيمة العقلية عمر بقاء الأفكار التى أنتجها؟ وكيف سيكون أثر هذا المشروع فى تقنين وضعية العالم بظروفه المتناقضة؟
وينطلق موران فى كتابه الأخير (فلنغير الطريق) من وحى فكرة تصحيح المسار البشرى الذى بلغ درجة قصوى من الاعوجاج والتطرف إستدلالاً بكم التأزمات الكونية التى يحصد المحيط الإنسانى آثارها الوخيمة فى القرن الحادى والعشرين وربما بعده، وقد سجل فى مخاضات هذه السيرة الذاتية من المشاهد والتصورات والتوجهات والمواقف والأحداث الباعثة على تأكيد أن العالم مركب خطأ كما قال «سارتر»، من ثم فهو فى حاجة ماسة إلى إعادة التركيب والبلورة وبجانب إستدعاء الذكريات الشخصية الأليمة قام أيضاً بإستدعاء بانوراما الحرب العالمية الأولى والثانية وما جرته على البشرية من أهوال كانت جديرة أن تردها إلى وعى ويقظة تعصمها من استمرار مسيرة التاريخ على نحو فوضوى يسوق إلى مأزق وأزمات يصعب التحلل منها مهما ارتقت الآلية التكنولوجية. لكن الغريب أن ما سرده «موران» من ذكريات عنيفة لم تغادر ذاكرته بعد تسعة عقود وهو ما يشير بالطبع إلى حدة الوعى المبكر الذى منحه رؤية تنويرية كاشفة ظلت معه كملحمة نضالية يأبى صاحبها الإستكانة والاستسلام لاسيما وقد تجلت له الإنسانية المعاصرة تخيم عليها أشباح الظلام.
ولعل أطياف الطفولة وخيالاتها وهواجسها المدمرة قد استحضرها «موران» فى شيخوخته حين أطاح وباء كورونا بملايين البشر، لذا كانت وقفته الناقدة كاشفة عن أزمة الحضارة الغربية التى تحسست خطاها منذ القرن السادس عشر وبلغت أوجها، لكن ما لبث أن تفككت أوصالها حين انهارت أفكارها الراسخة حول القدرات الخارقة للإنسان فى التحكم فى الطبيعة وتسييرها، بجانب الشكوك التى اخترقت ركائزها القائمة على الاعتقاد المذهل بالثورة الرقمية والتقدم التكنولوجى والإيمان المطلق بمستويات النمو الاقتصادى والرفاه الاجتماعى – والمعنى أن هذه المطلقات قد حظيت بثقة متناهية وفى الآن ذاته قد أعادت العالم بأسره إلى ثورة الشك والتخبط وأوقفته أمام ذاته لتطرح عليه درساً تاريخياً يخفف من وطأة الكبرياء والغطرسة الحضارية، إذ كيف تكون كل هذه المسيرة مع العلم والثقافة والفنون ولا تزال الإنسانية مهددة لأن وباء العنصرية المقتحم لخلايا المجتمعات المتقدمة هو الذى منعها من الأخذ بالعلاجات التى أنتجتها مجتمعات هامشية وهو ما يعنى بالطبع وجود خلل ما فى العقل الغربى لأن الأزمات الكبرى التى تمس المحيط الإنسانى ويشارك الجميع فى البحث عن مخرج انطلاقاً من وحدة الهدف لا تلاقى مطلقاً بالإعراض والاشمئزاز والتجاهل وربما الاحتقار!! من ثم فهو يندد بهذا العقل المرتكز على فكرة الحتميات التى تهدر الكثير من القضايا اللا مفكر فيها والإحتماليات اللامتوقعة والتغير البنيوى غير المرئى والأفكار الإبداعية المنشقة على مبدأ الحتمية.
إن موران فى كتابه الأخير (فلنغير الطريق) إنما يطرح استراتيجية تغييرية طموحة.. استراتيجية إنقاذ تبدأ خطوتها من إضفاء الطابع الإنسانى على العلاقات والمصالح والأزمات وإحياء السياسات الوطنية التى تمثل العدالة جوهرها ودعم الروابط المحورية بين الكيانات الدولية بجانب ضرورة القراءة النبيلة ليوميات القاتل الإقتصادى والإلتفاف بموضوعية مفرطة لآثار المشكلات البيئية وفهم العولمة بشكل أعمق من طابعها التقنى والاقتصادى وإقصاء البربرية الحضارية المطوقة للكينونة الغربية.
ليت عالمنا العربى يستلهم أياً من هذه الأفكار المنادية بالصحوة والاستبصار وإطلاق الوعى نحو أفق آخر يخدم مصلحة الذات والآخر ولا يكون وعياً مضادا للذات حتى تتحرر من اليتم المعرفى بسطوة القوى المعنوية القابعة داخلها لأنه كما قال «برتراند راسل» (يمكن للمجتمعات أن تكون متخلفة وجاهلة لكن الأخطر أن ترى جهلها مقدساً)!!
رابط دائم: