أثار الاتفاق الذى توصل إليه زعيما أذربيجان وأرمينيا تحت رعاية الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حول وقف إطلاق النار فى قره باغ، الكثير من التعليقات التى تباينت بقدر تباين المواقف ووجهات النظر تجاه مسار الأزمة الراهنة حول قره باغ، والسبل المقترحة لمعالجتها. وفيما استقبلت الأوساط الاجتماعية والسياسية فى أذربيجان توقيع الاتفاق بالكثير من مشاعر الارتياح والغبطة، على اعتبار ان ما تحقق هو النصر بعينه، على ضوء استعادة مساحات كبيرة من الأراضى الأذربيجانية المحتلة، لقى توقيع الاتفاق من جانب رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان، إدانة وانتقاد مواطنيه، الذين اتهموه بالخيانة والتفريط فى حقوق الوطن ووحدة أراضيه، فيما دفعه إلى الاختفاء واسرته فى مقر وزارة الدفاع خوفا من بطشهم. كما تباينت قراءات نص الاتفاق واختلفت التفسيرات فيما يتعلق بهوية ومشاركة قوات حفظ السلام، التى قالت مصادر الكرملين إنها تقتصر على القوات الروسية، بينما خرج «الاتراك» والرئيس الاذربيجانى إلهام علييف ليقولا أن القوات التركية سوف تشارك فى مهمة حفظ السلام مع القوات الروسية.
وفى محاولة لتفسير كل هذه التناقضات والمتناقضات، خرج ديميترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين، ليؤكد أن مشاركة القوات التركية لحفظ السلام لم تُطْرح للنقاش، كما انها غير واردة من الأساس بدون موافقة كل من الطرفين المعنيين يريفان وباكو. وأكد المتحدث الروسى، أن القوات الروسية لحفظ السلام هى المدعوة للقيام بمهامها فى المناطق وعند خطوط التماس التى بلغتها قوات كل من الجانبين الأرمنى والأذرى. أما عن مشاركة القوات التركية، فقال انها سوف تكون موجودة فى مركز الرقابة فى الأراضى الأذربيجانية. لكن الأهم هو ما كشف عنه بيسكوف، حين اعترف بوجود نقاط الاختلاف بين كل من موسكو وانقرة، تجاه تسوية الأزمة حول قره باغ.
لكن المهم اليوم يتلخص فى الأوضاع الكارثية التى آلت إليها أرمينيا، بعد اعتراف رئيس حكومتها بأنه بات عاجزا عن مواجهة الهجوم الكاسح من جانب «قوات اذربيجانية تدعمها قوات تركيا عضو الناتو، التى يعتبر جيشها الثانى من حيث القوة والعتاد»، على حد قوله. تراجع باشينيان عن سابق دعواه وشعاراته، التى رفعها لدى انقلابه على النظام السابق، حول ضرورة «طرد روسيا وقاعدتها العسكرية» والتوجه نحو الناتو والغرب، ليتوسل إلى روسيا لإنقاذه وحماية جيشه، الذى أعلنت قيادته عن عجزها عن مواصلة القتال، وطالبت بسرعة العمل من اجل وقف إطلاق النار وحماية ما بقى من قره باغ. طلب ذلك صراحة من الرئيس بوتين، وعاد ليطلبها ثانية بناء على رجاء القوات المسلحة الأرمينية وجيش قره باغ. كشف عن الخسائر الهائلة وتزايد حالات الفرار من الجبهة، وتعثر نظام التجنيد الإجبارى. ورغم ما اعترف به باشينيان بانه لم يتخذ قراره حول توقيع الاتفاق، إلا بعد توصية هيئة الأركان وطلب القوات المسلحة، حول وقف إطلاق النار، فان غضبة الجماهير لم تتوقف، فيما تطالب بإلغاء الاتفاق ومحاكمته بتهمة الخيانة، الامر الذى يضطره إلى الاحتماء واسرته بمقر وزارة الدفاع، خوفا من الفتك به، فى الوقت الذى تقول المصادر فيه، ان الجيش يمسك بمقاليد إدارة البلاد فى الفترة الراهنة.
أما الأهم فهو تحول الاعلام الروسى، نحو تذكير الأوساط الاجتماعية والسياسية، ليس فقط فى روسيا وحدها، بل وفى أرمينيا وبلدان الكومنولث، بضرورة تصحيح المسار ونشر الحقائق، وفضح كل ممارسات النظام الأرمنى و«شطحاته»، وهو الذى جاء على حراب «الثورة الملونة»، ودعم وتمويل صندوق سوروس الأمريكى، الذى يظل يملك مكاتبه وممثليه فى العاصمة الأرمينية . تحولت وسائل الإعلام الروسية فى إطار حملة كاملة العدد إلى الإشادة بما فعله الرئيس علييف فى أذربيجان لحشد القوى اللازمة لتحرير الأراضى الأذربيجانية. تذكر الإعلام الروسى، ان مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبى فى عام 1992، سبق وطرحت ضمن حلولها المقترحة ما طالبت وتطالب به أذربيجان، حول تحرير أراضيها فى إطار حدود المحافظات الأذربيجانية السبع»، وإقرار وضعية خاصة لقره باغ. بل وتحول فلاديمير سولوفيوف وثيق الصلة بالكرملين، عبر كل برامجه الحوارية، إلى انتقاد اللوبى الأرمنى فى روسيا والمواطنين الروس من ذوى الأصول الأرمينية، والذين يتجاوز عددهم المليونى نسمة، مؤكدا انهم لم يفعلوا شيئا لوطنهم فى الوقت الذى يتهم فيه روسيا بخيانة أرمينيا، وهو الذى كان يشيد بنظام باشينيان وحقوق أرمينيا حتى الأمس القريب. أكد سولوفيوف، ان روسيا هى التى أنقذت أرمينيا، وحالت دون تكبدها للهزيمة الساحقة وهى التى أعلن زعيمها باشينيان، ان القوات الأذربيجانية كانت على وشك الاستيلاء على ستيباناكيرت عاصمة قره باغ وكبريات مدنها، ومحاصرة ما يقرب من عشرين ألفا من جنود وضباط القوات المسلحة الأرمينية .
استضاف سولوفيوف وكعادته فى كل «الملمات»، جنرال المخابرات الإسرائيلية ياكوف كيدمى، ليؤكد ان السلطة التى وصلت إلى سدًة الحكم فى يريفان، هى التى «أوصلت البلاد الى الكارثة». وقال إنه كان من الممكن ألا تنزلق أرمينيا إلى هذه الحرب، وكان يجب الاستعداد على نحو أحسن، فضلا عن انها كانت معدة إلى حُسْن تقدير قدراتها المسلحة. كما أعاد إلى الاذهان، ان أرمينيا كان يمكن ان تتفادى كل هذه النتائج الكارثية، لو قبلت ما طُرِح عليها من شروط للتسوية. كما كشف عن «ثلاثين الفا» من الضحايا، الذين فقدتهم أرمينيا فى المعارك الأخيرة، والتى قال إن القيادة الأرمينية تتحمل مسئولية سقوطهم. وقد طالب الجنرال الإسرائيلى والمنشق السوفيتى السابق، شعب أرمينيا بمراجعة ما سبق ورفعه باشينيان من شعارات معادية لروسيا، التى ثمة من يطالبها اليوم بإنقاذ أرمينيا وانتقاد مواقفها واتهامها بالتقصير.
لكن الواضح والمؤكد وبغض النظر عن الملاسنات والحملات الكلامية، ان روسيا تبدو وكأنها «الرابح الأكبر» من توقيع الاتفاق، الذى تم التوصل اليه بين الرئيس إلهام علييف، ورئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان، تحت رعاية رئيسها فلاديمير بوتين. فها هى تؤكد وجودها فى القوقاز بنشر قواتها لحفظ السلام فى قره باغ، انطلاقا من موقف وساطة يستند إلى أن تسوية المشكلة يجب ان تكون سلمية عبر المباحثات السياسية الدبلوماسية، وهو ما تؤيدها فيه فرنسا والولايات المتحدة من الرؤساء المناوبين لمجوعة «مينسك»، على النقيض من مواقف تركيا، التى تتبنى الحلول العسكرية واستخدام القوة سبيلا إلى حل المشكلة. وهناك أخبار تقول باتفاق بين وزارتى الدفاع فى كل من أذربيجان وروسيا، حول وجود ممثلين لقوات حفظ السلام الروسية فى الأراضى الأذربيجانية إلى جانب القوات التركية فى مركز الرقابة، الذى توصلت إلى إقراره الأطراف المعنية. وها هى تبعث برسائل إلى القوى الإقليمية تقول فيها، إن ما طرحته على الرئيسين الاذربيجانى الأسبق حيدر علييف (والد الرئيس الحالى)، والرئيس الأرمنى الأسبق فى إطار مجموعة مينسك فى 1992، هو ما اضطر أرمينيا إلى الموافقة عليه اليوم، وإن حدث ذلك بعد ان تكبدت الكثير من الخسائر البشرية والمادية. وإذا كانت أذربيجان تبدو باعتبارها الدولة المنتصرة، التى فرضت إرادتها وحررت أجزاء كبيرة من أراضيها وأجبرت خصمها على الاستسلام وطلب العون، فإنها لم تكن لتكون كذلك إلا من خلال التزام روسيا بموقفها المحايد، وهى التى طالما اتهموها بغير ذلك، فى توقيت تصاعدت فيه أصوات إقليمية ودولية تنشد ملء الفراغ الذى بدا واضحا خلال سنوات الصراع الطويلة، التى امتدت لما يقرب من الثلاثين عاما. ومن تلك الأصوات كانت تركيا التى تواصل طموحاتها الإمبراطورية التوسعية، وإيران التى تقترب أكثر من أرمينيا، على خلفية صراعات قديمة وحديثة مع أذربيجان، التى يظل الجزء الأعظم من مواطنيها يسكن شمال إيران، التى لم تكف لقرون طويلة عن ادعاءاتها فى منطقة شمال وجنوب القوقاز. ناهيك عن إسرائيل، التى ترتبط بأذربيجان بعلاقات وثيقة، تقوم على أساس تبادل المصالح من خلال صادرات النفط الأذربيجانية إلى إسرائيل، والأسلحة الإسرائيلية إلى أذربيجان، تحسبا ليوم المواجهة مع إيران. كما ان الأهم بالنسبة لشعب أرمينيا التى جاءت قيادته الأخيرة بدعم وتأييد أصحاب فكرة الثورات الملونة وبوعود الدوائر الغربية واللوبى الأرمينى فى الولايات المتحدة وفرنسا يظل فيما يعرب عنه من خيبة امل فيمن كان يعلق عليهم الامل فى ان يهبوا لنصرته.
على ان ذلك كله لا يمنع موسكو وقيادتها من البحث مع كل هؤلاء «الشركاء-الفرقاء» عن مساحات الاتفاق، وتقليص مساحات الاختلاف، للسير سويا صوب الحلول المنشودة، وخاصة تركيا، التى أبدت أكبر قدر من الاهتمام، وربطت ما بين الاقوال والافعال فى تدخلها إلى جانب اذربيجان. وذلك ما اعترف به بيسكوف المتحدث الرسمى باسم الكرملين، وإن أعاد إلى الأذهان الكثير من مشاهد التعاون بين روسيا وتركيا فى سوريا، دون ان ينكر فى الوقت نفسه وجود المواقف الخلافية التى تتطلب من الرئيسين المزيد من الحوار.
ورغم كل ما تقدم ذكره، ينبغى القول إن القراءة السريعة لنص الاتفاق تقول إن ما جرى الاتفاق حوله ليس «تسوية للمشكلة»، وليس إعلانا عن هدنة واضحة الملامح، بقدر كونه وقفا لإطلاق النار وتوقفا للمعارك، يبقى كل من الطرفين عند الخطوط التى يقف عندها. وإذا كان الاتفاق يقضى بجلاء القوات الأرمينية عن بعض الأراضى الأذربيجانية، فإنه لم ينص على الجلاء عن كل الأراضى، أى المحافظات السبع المحتلة، فضلا عن انه يخصم من هذه الأراضى ممرا هو ممر لتشين، بعرض خمسة كيلومترات، للربط بين مقاطعة قره باغ وجمهورية أرمينيا، لتأمين التواصل والقضايا الإنسانية. كما ينص الاتفاق أيضا على ممر مماثل يربط بين مقاطعة ناخيتشيفان الأذربيجانية ذات الحكم الذاتى والوطن الأم فى أذربيجان، تحت إشراف مباشر من قوات حفظ السلام، وهو إنجاز يضاف إلى انتصارات علييف فى المعارك الأخيرة، وهو فى الوقت ذاته يسلب أرمينيا تواصلها المباشر مع إيران المتاخمة لحدودها الجنوبية، وإن لم ينص على حل نهائى لتسوية قضية قره باغ ، مكتفيا بتحديد مدة زمنية للاتفاق، هى خمس سنوات قابلة للتجديد. وللقصة فصول اخرى لابد ان تتوالى مشاهدها خلال الأيام والاسابيع القليلة المقبلة، على وقع إصرار الرئيس التركى أردوغان على التمسك بطموحاته التوسعية، التى تقول روسيا الشعبية أنها تفوق قدراته العسكرية والاقتصادية.
رابط دائم: