رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تشابك المصالح فى جنوب القوقاز يهدد بمواجهات جيوسياسية

رسالة موسكو د. سامى عمارة
الرئيس الروسى فلاديمير بوتين

بعد احتدام المعارك بين أذربيجان وأرمينيا للشهر الثانى على التوالي، نجحت موسكو فى إقناع طرفى النزاع بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار ونشر قوات حفظ سلام روسية فى قره باغ، فى توقيت مواكب لتصاعد تدخل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الذى يحاول الاستفادة من النزاع الأذرى الأرمني، لتجسيد حلمه الإمبراطورى التوسعى حتى حدود الخلافة العثمانية فى آسيا الوسطي. ورغم كثرة الخلافات وتباين وجهات النظر بين بوتين وأردوغان تجاه العديد من قضايا المنطقة، فإن الرئيس الروسى يظل عند موقفه من عدم الكشف عن حقيقة ما يبطن من آراء وتوجهات حول مواقف أردوغان وطموحاته التوسعية.

 

توقفت المعارك على الجبهة الأذربيجانية، والتى كانت تدور معظمها داخل أراضى مقاطعة «قره باغ الجبلية» ذات الحكم الذاتى التى أعلنت انفصالها من جانب واحد عن أذربيجان مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فيما اتخذ برلمانها قراره بتغيير اسمها إلى الاسم الأرمنى «آرتساخ». هذه المقاطعة ذات الأغلبية السكانية الأرمنية، تتمتع بحماية أرمينيا المجاورة التى احتلت سبعا من محافظات أذربيجان، بما تبلغ مساحته ما يقرب من 20% من الأراضى الأذرية، لتأمين التواصل والاتصال مع «آرتساخ» وسكانها الذين تجتمع معهم فى العرق والدين واللغة والتاريخ. وقد أسفرت معارك ذلك الحين عن اضطرار السكان الأذريين، إلى اللجوء إلى أذربيجان الوطن الأم. وطالت المواجهات العسكرية، لما يقرب من خمس سنوات حتى التوصل إلي  إقرار «الهدنة» التى استمرت قرابة 27 عاما، دون أن يتوصل الجانبان إلى نتيجة تُذكر لحل هذا النزاع، رغم كل الجهود والمباحثات والوساطة من جانب مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، برئاسة كل من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا.

وها هى روسيا أخيرا واستنادا إلى ما يربطها مع كل من البلدين بعلاقات تحالف وصداقة تنجح فى إقناع الطرفين بالتوصل إلى توقيع اتفاق حول وقف إطلاق النار اعتبارا من العاشر من نوفمبر الجاري، وتوقف قوات الطرفين عند مواقعها الحالية ونشر قوات حفظ السلام الروسية على خط التماس فى قره باغ والممر الممتد بين أراضى أرمينيا ومقاطعة قره باغ، إلى جانب تبادل الاسرى والاتفاق حول عودة اللاجئين، بما يسمح لاحقا بتوفير الظروف المناسبة للتوصل إلى التسوية الشاملة للنزاع فى المنطقة.

وقال الرئيس الأذرى ان الاتفاق يقضى أيضا بموافقة أرمينيا على جلاء قواتها عن ثلاث من المناطق المتاخمة لقره باغ خلال الفترة من 15 نوفمبر الجارى حتى الأول من ديسمبر المقبل. وينص الاتفاق أيضا على توفير الممرات الأمنية التى تربط مقاطعة ناخيتشفان الأذرية مع الوطن الأم بممر آمن تحت إشراف قوات حفظ السلام الروسية إلى جانب الممر الأمن بين قره باغ وأرمينيا.

وكان رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان، لجأ إلى الرئيس بوتين يطلب الحماية، على وقع تواصل زحف القوات المسلحة الأذرية داخل حدود قره باغ، وتحريرها لمساحات واسعة تمتد حتى مشارف العاصمة ستيباناكيرت، بعد ان نجحت فى تحرير درة المقاطعة - «مدينة شوشا»، التى يعد سقوطها بداية النهاية لتحرير كامل تراب المقاطعة. ومن هنا كانت الغضبة واسعة النطاق فى أرمينيا تطالب بإقالة الحكومة فيما اقتحم المتظاهرون مقرها فى يريفان، إلى جانب الاعتداء الشخصى على رئيس البرلمان، احتجاجا على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار واتهام الحكومة بـ «العجز عن الاضطلاع بمهمة الدفاع عن الوطن».

ومن اللافت فى هذا الصدد الاحتفالات واسعة النطاق التى أقامها أردوغان فى تركيا بمناسبة سقوط شوشا، وقال فيها انها مقدمة لعودة الانتصارات والامجاد التركية بعد مائة عام. قال أردوغان: «ان تركيا موجودة الآن فى سوريا وليبيا- وها هى الآن موجودة فى أذربيجان»، فيما كشف عن عزمه على زيارة شمال قبرص خلال الأيام القليلة المقبلة، فى إشارة لا تخلو من مغزى حول تعزيز مواقع بلاده فى شرق المتوسط. وقد شهدت الأيام الأخيرة تكرار التواصل بين الرئيسين بوتين وأردوغان لبحث آخر التطورات على صعيد هذه الأزمة، فى توقيت مواكب لما يتصاعد من قلق بشأن تصاعد التدخل المسلح من جانب الرئيس التركة أردوغان دعما لأذربيجان، ومسئوليته تجاه تجنيد المرتزقة والإرهابيين من جبهة النصرة وغيرها من الفصائل الإرهابية فى سوريا والزج بها إلى ساحة القتال بجانب القوات الأذرية. وكان بوتين قد كشف فى تصريحاته خلال لقائه عبر الفيديو كونفرانس مع المشاركين فى منتدى فالداى عن أنه يتحدث تليفونيا مع الطرفين عدة مرات كل يوم. وتقول المصادر فى موسكو إن مواقف الرئيس الاذربيجانى علييف تتسم بقدر هائل من التشدد انطلاقا مما حققه من انتصارات عسكرية آخرها الاستيلاء على شوشا ذات الموقع الاستراتيجى المتميز على مقربة مباشرة من العاصمة ستيباناكيرت تساند مواقعه فى الداخل وهو الذى طالما اتهمته الأوساط القومية المعارضة بالتهاون فى مباحثاته مع الجانب الأرمني، وما يكاد يرقى ما حد التفريط فى الأراضى الأذربيجانية المحتلة. وبهذه المناسبة تعترف الأوساط السياسية والإعلامية فى موسكو لإلهام علييف الرئيس الأذرى بقدر كبير من الحنكة السياسية، والقدرة على المناورة والتحلى بأكبر قدر من الخبرات والمعرفة، والتى يقولون أنه قد يكون ورثها عن أبيه حيدر علييف الرئيس الأسبق لجهاز كى جى بى فى أذربيجان قبل تصعيده عضوا فى المكتب السياسى إلى جانب ميخائيل جورباتشوف مع أولى سنوات البيريسترويكا، ليعود بعدها إلى قيادة أذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وثمة من يقول إن علييف يظل اليوم واحدا من أهم وأقوى القيادات السياسية لبلدان الفضاء السوفيتى السابق، ويضعونه فى مصاف نظيريه الروسى فلاديمير بوتين، والقزاخى السابق نور سلطان نزاربايف. وذلك على النقيض من غريمه رئيس الحكومة الأرمنى باشينيان، الذى كان صحفيا مغمورا، لم يرتق لأكثر من نائب فى البرلمان، حصل على دعم أنصار «الثورات الملونة» من مؤسسة جورج سوروس واللوبى الأرمنى فى الولايات المتحدة، فى الوقت الذى لم يكن فيه الرئيس بوتين متحمسا للتعامل معه، وإن جنح نحو ذلك للحيلولة دون ارتمائه فى أحضان الغرب، والتضحية بما تملكه روسيا فى أرمينيا من قاعدة عسكرية.

ونعود إلى ما تقوم به تركيا فى المنطقة بما تضمره لها من طموحات ومخططات فرضت عليها اليوم تقديم مختلف أشكال الدعم العسكرى والمعنوى غير المشروط إلى اشقاء التاريخ والجغرافيا فى أذربيجان توطئة لمخططات صار يعلمها القاصى والداني، ولا تخفيها القيادة السياسية والعسكرية فى تركيا.

وفى هذا الشأن تتهم موسكو ومعها أرمينيا وحلفاؤها ومنهم فرنسا واللوبى الأرمنى ومؤسسة جورج سوروس وما يسمى الدولة العميقة فى الولايات المتحدة، تركيا بالدفع بهؤلاء المرتزقة الذين يبلغ تعدادهم «أربعة ألوية» من ذوى الخبرات القتالية فى الجبال، بما يتلاءم مع الطبيعة الجبلية لمقاطعة قره باغ، للقيام بدور مزدوج يتلخص فى دعم أذربيجان والانتهاء من مهمة تحرير أراضيها، بما يمكن أن يمنح تركيا حق الوجود بالمنطقة تكأة لدور أبعد مدى صوب الأحلام التوسعية المؤجلة لتركيا فى آسيا الوسطى حتى الحدود المتاخمة للصين. ورغم ما تقوله مصادر روسية كثيرة حول أن طموحات أردوغان فى هذا الصدد تفوق كثيرا قدراتها العسكرية والاقتصادية، فإن أردوغان سبق أن أكد أكثر من مرة قدرته على المناورة التى تستند فى الكثير من جوانبها إلى المغامرة غير المحسوبة. ورغم «التهور» الذى تتسم به الكثير من خطواته ومغامراته، فإنه حقق نجاحا لا بأس به فى كل من شمال سوريا والعراق، إضافة إلى مغامراته فى شرق وجنوب المتوسط ضد اليونان وفى ليبيا. لكن الأمر فى قره باغ وجنوب القوقاز يتباين كثيرا عما هى عليه الأوضاع فى سوريا وجنوب المتوسط، نظرا لأنه يمس بشكل مباشر دولة كبرى هى روسيا التى ترتبط تركيا معها بتحالفات، حتى ولو كانت هشة، فإنها تفرض على رئيسها التزامات يظل مدعوا إلى مراعاتها بل تنفيذها.

ورغم تحفظات الجانب الروسى على الكثير من هذه الممارسات، يحاول الرئيس بوتين إظهار غير ما يبطن، فيما يتعلق بخطورة ما يفعله أردوغان.

وقد بدت هذه المحاولات على نحو لا يضيف إلى بوتين، بل على العكس ينتقص من رصيده الذى كثيرا ما استند إليه فى مواجهاته وصلابته أمام خصومه الغربيين. وكان بوتين حاول التهوين من قدر مغامرات أردوغان، وما يقوم به من محاولات فى مناطق تقع فى إطار المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية لروسيا، فى نفس الوقت الذى يظل فيه متمسكا بعدم الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم. وهو فى هذا الموقف لا ينطلق من اعتبار القرم جزءًا من الأراضى الأوكرانية، بل بوصفها أراضى تركية تاريخيا منذ استولت عليها الإمبراطورية الروسية إبان سنوات حكم الإمبراطورة كاترينا الثانية فى حرب القرم فى عام 1768-1774، والتى يحلم باستعادتها ضمن مشروعه لإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية. وعلى الرغم من وضوح أبعاد طموحات الرئيس التركي، يظل الرئيس بوتين عازفا عن دخول أى مواجهة معه، انطلاقا من قناعة تقول انه «حليف مناسب» لروسيا تتسم سياساته بأكبر قدر من المرونة، وهو ما لا يتفق مع بوتين فيه، كثيرون من أبرز المعلقين والمراقبين فى موسكو ومنهم فيدور لوكيانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع، والمدير التنفيذى لمنتدى فالداى المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الكرملين. وكان بوتين بدا على غير حسمه المعهود الذى كثيرا ما عُرف عنه لدى تقدير نظرائه فى الساحة السياسية. قال بوتين إن أردوغان «سياسى مرن». اكتفى بوتين بالقول «أنه لا يخشى شيئا (تجاه ما يقال حول طموحات أردوغان)، وأن بلاده ليست فى الوضع الذى يمكن معه أن تخشى شيئا».

وردا على سؤال لوكيانوف بشأن احتمالات وجود خطة لاستعادة تراث الإمبراطورية العثمانية، قال بوتين إنه لا علم لديه بوجود مثل هذه الخطة، وأحال لوكيانوف إلى أردوغان ليستفسر لديه حول ما يسأل عنه! وكان من الغريب أن ينخرط بوتين فى «وصلة مديح» لأردوغان الذى قال أنه سياسى يمكن التعامل معه وأنه يفى بما يعد به. وأشار إلى أنه وعد بتنفيذ مشروع السيل التركى «التيار الجنوبي» لنقل الغاز، واستطاع تنفيذ ما وعد به، فى توقيت ترتبك فيه أوروبا وتبدو غير قادرة لسنوات طويلة على تنفيذ وعودها بشأن «التيار الشمالي-2». أما عن عدم اعترافه بضم روسيا للقرم، فقال بوتين إن ذلك مسألة عادية، وتندرج ضمن إطار القضايا الخلافية بين البلدين فيما يتعلق بمنطقة جنوب القوقاز، التى تتشابك فيها مصالح إيران التى تقف إلى جانب أرمينيا، وإسرائيل المؤيدة لأذربيجان، إلى جانب روسيا وتركيا، بما قد يهدد بمواجهات جيوسياسية متعددة الأطراف.           

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق