رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

سارق الياسمين «أســطورة»

منير عتيبة

اعتادت الشمس أن ترسل شعاعًا دافئًا كل صباح يوقظ الفتى «منيروس»، يفتح «منيروس» عينيه، يبتسم للشعاع المتراقص أمامه، يمسكه بيديه، يغسل به وجهه، فيضئ فرحًا، وينتفض نشيطًا خلف أنفه، تقوده رائحة حبيبته «ياسمينا»، عطرها المسكر ينعش روحه، يراها تستحم فى فرحة الشمس وبهجة أمواج البحر، فيلقى بنفسه بجوارها، يعانقها، ويستعيدان فيض مشاعر الليلة الماضية الملتهبة عشقًا. استيقظ «منيروس» فى هذا الصباح، غسل وجهه بالنور، لكنه شعر بثقل فى روحه، لم يتحرك من مكانه، كأن جبل «المنسيوم» بكل ثقله يرقد فوق صدر الفتى، شعر بألم لا يطاق، لكن صرخته المدوية انطلقت بسبب ما أحسه من ذعر، إذ اكتشف أن أنفه لا تشم عطر حبيبته، خنقته الهواجس، أتكون قد رحلت؟ ولماذا؟ أأصيبت بأذى؟ وما هو؟ وكيف؟ تحرك الفتى يدفعه خوفه من فقد حبيبته، اطمأن قلبه عندما رآها تؤدى طقس الاستحمام الصباحى، لكن الذعر تملكه أكثر «لماذا لا أشم رائحة الياسمين؟!».

اقترب «منيروس» من ياسمينا، احتضنها، غرس أنفه فى شعرها، وفى جسدها قطعة قطعة، كان كالمجنون الذى يبحث عن المستحيل، وكانت «ياسمينا» مندهشة من حال حبيبها، لكنها صمتت وتركت له جسدها يتشممه، صرخ «منيروس» وهو ينظر إلى أمواج البحر «أين رائحة الياسمين؟ من سرقها؟». كان يشك فى الأمواج، وفى شعاع الشمس، وفى رمال الشاطيء التى تسير عليها «ياسمينا» من كوخهما إلى البحر، وفى الهواء التى تتنفسه حبيبته. جلس «منيروس» على الشاطىء منهكًا، وجلست «ياسمينا» بجانبه، ضمته إليها، وضعت رأسه على كتفها، وانتظرت طويلًا فى صمت، حتى سمعت حبيبها يقول باكيًا: «أين ياسمينك؟!». فى تلك اللحظات كانت ضحكة بها الكثير من الشر ترج الكون، كل المخلوقات شعرت بها، وتقززت منها، إلا البشر فليس مسموحًا لهم سماعها، كان «أفرجون» رب العطور يقف فوق قمة جبل «المنسيوم» يشاهد ما أصاب «منيروس» من ذهول عبر قطعة كبيرة من فحم كريه الرائحة.

كان «أفرجون» يشعر بالغيرة من «منيروس» لأنه يشم رائحة «ياسمينا» المذهلة، فى حين أنه وهو رب العطور غير مسموح له بأن يشم سوى الرائحة العفنة لقطعة الفحم، عقابًا له من «أعربيون» كبير أرباب «المنسيوم». كان «أعربيون» غاضبًا بشدة من «أفرجون» عندما اكتشف أنه خبأ كل العطور فى كهف سرى بجبل «المنسيوم»، وأن الحياة فى بلدة الشمس «خورشيدون» أصبحت بلا رائحة، حدث هذا منذ أزمان بعيدة، قبل ميلاد «منيروس» و«ياسمينا» بمئات السنين، شعر البشر وقتها بأن الحياة فقدت بهجتها، وبدأوا يتخلصون منها، من فوق الجبال يلقون بأنفسهم، أو فى أعماق البحار، فأظهر «أعربيون» عطفًا تجاههم، وكان يفكر أن بلدة الشمس لو خلت من البشر فلن يكون هناك معنى لوجود جبل «المنسيوم» وأربابه، وأمر بعض الأرباب بالبحث عن العطور المختفية حتى عثروا عليها، واعترف «أفرجون» بأنه من فعل ذلك ليعرف مدى أهمية ما يملكه عندما يمنعه عن البشر، فعاقبه «أعربيون» أقسى عقاب يمكن أن ينال رب العطور. لم تكن عطايا رب الكون مفهومة بالنسبة لـ «أفرجون»، فقد شم رائحة «ياسمينا» منذ ولادتها، كان جسدها يتضوع بعطر من روحها، عطر به قبس من أنفاس الأرباب وجوهر المادة الأولى لعطور الكون، شعر بالغيرة الشديدة عندما وصلت رائحة «ياسمينا» إليه، كانت أول رائحة يشمها منذ حكم عليه «أعربيون»، ولم يعرف لماذا سُمح له بشم هذه الرائحة بالذات، كان سعيدا وحاقدا، وزاد حقده عندما تزوج «منيروس» من «ياسمينا» وأصبح له حق شم رائحتها القدسية، فانتظر لحظة غفوة «لياسمينا» فى أحضان موج البحر، وامتص رائحتها بقطعة الكربون الكريهة، ثم صبها فى زجاجة سحرية أخفاها فى كهف سرى تحت جبل «المنسيوم».

شعر «منيروس» بالامتنان من أجل حبيبته، فهى لا تشم رائحة ذاتها، لذلك لا تتألم لفقدها، هى فقط حزينة لأنها تراه متألمًا، وتشعر بأن بهجة الحياة لم تعد تحيط بكوخهما، أصبحت لياليهما باردة لأن «منيروس» يقضيها سارحًا فيما لا تدرى، وأيامهما تمر ثقيلة بدون أن يتبادلا كلمة، فلم يجد الفتى رغبة فى كلام قد يزيد ألمه، أو يُشعر حبيبته بعظم ما ضاع منهما، لكن عقله كان يدور بأقصى سرعة محاولًا أن يفهم ما حدث، وأن يجد حلًا يعيد إلى «ياسمينا» عطرها، فلم يهده عقله لشىء سوى «الهائمة».

كان أهل «خورشيدون» يطلقون على عرافتهم اسم «الهائمة»، لأنهم لا يعرفون لها عمرًا فهى هائمة فى الزمان، ولا يعرفون لها سكنًا فهى هائمة فى المكان، لكنها كانت ملاذهم عندما تعجز عقولهم، وتخيب حيلهم، إذ تخطر فى بال من استعصت عليه مشكلته، فتحضر له فى الحال بالصورة التى يصورها له خياله، إذ لم تكن ذات أوصاف محددة فهى هائمة فى كل الملامح. رأى «منيروس» أمامه سيدة عجوزًا منتصبة القامة، نبيلة الملامح، تغطى شعرها بطرحة شفافة سوداء، ابتسمت له، فأقبل عليها منتفضًا، لم تكن «ياسمينا» تراها، لكنها كانت قد توقفت عن التعجب من تصرفات زوجها فى الأيام الأخيرة، فلم تكن دهشتها كبيرة عندما رأته يكلم الفراغ.

شرحت «الهائمة» «لمنيروس» كل ما فعله «أفرجون»، ثم قدمت له الحل. كان الحل مفزعًا لدرجة أن «منيروس» وقف صامتًا لفترة طويلة دون أن يجيب «الهائمة» بالموافقة، كان يقارن بين استمرار الحياة على ما هى عليه الآن بدون عطر الياسمين، أو تنفيذ ما أخبرته به الكاهنة والذى قد يودى بحياته فيحرم من «ياسمينا» كلها وليس من عطرها فقط.

طلب «منيروس» من «الهائمة» أن تمهله بعض الوقت ليفكر، فأخبرته أن عليه أن يتخذ قراره الليلة، لأن الربيع يبدأ بعد اثنين وأربعين يومًا، ويجب أن يعود إلى حبيبته بعطرها قبل أربعين يومًا من بدء الربيع لا أقل ولا أكثر. رفضت «ياسمينا» بشدة ما اقترحته الكاهنة، لكن رفضها جعل «منيروس» يصمم على القيام بالمخاطرة ولو دفع ثمنا لها حياته أو أنفه.

نظر «منيروس» إلى نجوم السماء اللامعة وكأنه يستمد منها العون، ونظرت إليه «ياسمينا» ترجوه بعينيها ودموعها أن يتراجع عن قراره، لكنه كان قد خلع ملابسه إلا مما يستر عورته، وألقى بنفسه فى البحر. حفظ «منيروس» الطريق التى رسمته له الكاهنة، سيسبح لمدة ثلاث ساعات حتى يصل إلى أقدام جبل «المنسيوم» ثم يتسلق صخورًا مدببة صعبة الارتقاء ارتفاعها عشرات الأمتار، وعليه أن يكتم ألمه عندما تتجرح قدماه وتنزفان، حتى لا يستمع حراس الجبل إلى أنينه، وعندما يصل إلى صخرة بيضاء ناصعة مستوية سيجد عليها جناحين من ريش أسود، يرتديهما، ويغمض عينيه، ولا يفتحهما إلا عندما يشعر بأن قدميه لامستا الأرض مرة أخرى، سيجد نفسه داخل الكهف السرى، وسيجد الزجاجة المسحورة أمامه، لا يمد يده ليأخذها وإلا قطعت فورا، بل عليه أن يخلع أنفه، ويقربها من فوهة الزجاجة بمقدار قبضة يد، والأنف ستسحب العطر من الزجاجة، ثم يضع أنفه فى قبضته، ويحرص على ألا تنسكب من العطر قطرة واحدة، ثم يرتدى الجناحين، ويغمض عينيه، حتى يشعر بملمس رمال الشاطىء فيفتحهما، ليجد «ياسمينا» بانتظاره، فيسكب العطر من أنفه بين ثدييها.

كان «أفرجون» يراقب «الهائمة» وهى تشرح الخطة، ويراقب «منيروس» وهو ينفذها، ويعض على شفته السفلى بغيظ شديد حتى تدمى ويسقط منها دم أسود، ويضرب أنفه بيديه بعنف لأنها لن تشم إلا رائحة قطعة الكربون الكريهة إلى الأبد بعد أن يفقد عطر الياسمين، ولم يكن بيده ما يفعله ليوقف «منيروس»، إذ ألقت «الهائمة» تعويذتين، واحدة حول «منيروس» والثانية حول الكهف، فلا يستطيع أن يصل إليهما «أفرجون».

اعتادت «ياسمينا» على رؤية «منيروس» قلق العينين، منتفض الجسد، وبلا أنف، فقد اختفت أنفه بمجرد أن سكب عطر الياسمين بين ثدييها، وقد أخبرته الكاهنة أن عليه هو و«ياسمينا» أن يجلسا أمام البحر لثلاث ليال قبل بدء الربيع بداية من الليلة التاسعة عشرة من الشهر الثالث، وأنه سيستعيد أنفه فى الليلة الأولى، ويستعيد إحساسه برائحة ياسمينا فى الليلة الثانية، أما الهدية الكبرى فستمنح «ياسمينا» القدرة على شم رائحتها القدسية فى الليلة الثالثة؛ ليلة ميلاد الربيع. جلس العاشقان فى الليلة التاسعة عشرة من الشهر الثالث ينظران إلى البحر بأمل، وإلى بعضهما بقلق، وإلى السماء برجاء، وقلباهما يناديان الربيع.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق