رغم اعترافها بأن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، هو الأكثر ضغطا على روسيا، والأشد انتقادا لسياساتها وقياداتها، فإن موسكو تبدو أقرب إلى الترحيب بإعادة انتخابه عن جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطى الأمريكي، الذى وصف ترامب بأنه «كلب بوتين». ورغم كل ما قيل ويقال حول أن موسكو سوف تظل على مسافة واحدة من المرشحين، فإن ما نراه من تحول فى بوصلة الإعلام الروسى ومنه الرسمى متمثلا فى القنوات الإخبارية الرسمية والبرامج الحوارية المحسوبة على الكرملين، يقول بما يقف على طرفى نقيض من هذه التصريحات التى كشفت عن مسئولية ترامب تجاه 46 قرارا معاديا لروسيا.
مع اقتراب السباق الانتخابى بين مرشحى الحزبين الجمهورى والديمقراطى الأمريكيين من خط النهاية خلال الأسابيع القليلة المقبلة، تتصاعد الاتهامات من جانب بايدن لمنافسه ترامب بوقوعه تحت تأثير روسيا التى لا تزال موضع الاتهام بتدخلها فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية. وعلى الرغم من تكرار ترديد روسيا أن ترامب هو الرئيس الأمريكى الأكثر تشددا فى مواقفه مع موسكو، والأكثر إقرارا للعقوبات ضد روسيا فى تاريخ العلاقات بين البلدين، تظل هذه الاتهامات سلاحا يشهره جو بايدن ضد خصمه، وحتى الحد الذى بلغ وصفه لترامب فى المناظرة الأولى التى جمعت المرشحين فى مطلع الشهر الجارى بأنه «كلب بوتين». ومن اللافت أن قناة «روسيا-1» الرسمية حرصت فى برنامجها الحوارى «موسكو- الكرملين- بوتين» الذى يقدمه بافيل زاروبين تحت رعاية الكرملين، على توفير الفرصة المناسبة للرئيس بوتين للتعليق على اتهام بايدن لخصمه ترامب بأنه «كلب بوتين» والإعلان عن موقفه رسميا من هذه الانتخابات. ما علق عليه بوتين بقوله إن بلاده لا تتدخل فى هذه الانتخابات وتقف على الحياد من الطرفين. وأكد الرئيس الروسى أن روسيا سوف تتعامل مع أى رئيس قادم للولايات المتحدة، يمكن أن يمنحه الشعب الأمريكى ثقته. أما عن تقديره لمواقف المرشحين، فقال بوتين: «إن روسيا تقدر عاليا تصريحات ترامب حول تطوير العلاقات الروسية الأمريكية». وإذ أشار إلى تحقيق الكثير على صعيد العلاقات الثنائية، أكد بوتين عالى تقديره لما تحقق على هذا الصعيد. وعزا الرئيس الروسى تعثر الجهود الرامية لتطوير العلاقات الثنائية، إلى منظومة «الحلول الوسط» التى تحكم نشاط الحزبين تجاه ما وصفه بـ «ضرورة كبح جماح روسيا». واعترف بوتين بأن العلاقات الثنائية شهدت فى ظل حكم إدارة ترامب اتخاذ 46 قرارا تقضى إما بفرض عقوبات جديدة، أو توسيع دائرة ما سبق أن اتخذته الولايات المتحدة ضد روسيا من عقوبات. كما أن الإدارة الأمريكية الحالية أعلنت خروجها من معاهدة الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدي، بإضافة إلى ما تعلنه إدارة الرئيس ترامب حاليا حول بدء الإجراءات الخاصة بالخروج من معاهدة «السماوات المفتوحة»، وتلك خطوة بالغة الخطورة لا بد أن تثير القلق. وأضاف إلى كل ذلك عدم تنفيذ عدد من المشروعات المشتركة. غير أن بوتين بعد عرضه لكل هذه السلبيات، عاد ليقول إنه مع كل ذلك، فقد ارتفع حجم التبادل التجارى بشكل ملموس، فضلا عما تحقق من استقرار على صعيد أسواق الطاقة.
وفى إطار تقديره لمواقف مرشح الحزب الديمقراطى بايدن، قال بوتين إنها تتسم بالكثير من العداء لروسيا، وإن أشار إلى أنها تقترب من مبادئ الاشتراكية الديمقراطية التى تتقارب معها أيديولوجية الحزب الشيوعى بكل ما تتضمنه من قيم يسارية الطابع التى اعترف بأنه لا يزال معجبا بها، ومنها التكافؤ والعدالة. لذا وكما قال بوتين فإن هناك أيضا ما يجمع روسيا مع ممثلى الحزب الديمقراطي. وأضاف بوتين فى معرض تعداده لما يمكن أن يجمع روسيا مع الحزب الديمقراطي، ما يطرحه بايدن حول إمكان مد فترة معاهدة حول الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، أو عقد أخرى جديدة، وهو ما قال «إنه يمكن اعتباره عدّه جادا لاحتمالات التنسيق المتبادل بين الجانبين فى المستقبل». ولعل ذلك ما دفع الرئيس الأمريكى ترامب إلى أن يسارع بالعودة عن رفض اقتراح موسكو حول تمديد فترة معاهدة «الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية» لمدة عام، استعدادا لتوفير الفرصة لمباحثات مستفيضة خلال العام المقبل لمد المعاهدة لفترة جديدة.
على أن ما قاله ويقوله بوتين ويحاول أن يراعى بحكم منصبه من خلاله مقتضيات أكبر قدر من الدبلوماسية، يبدو على طرفى نقيض مما يفعله نظيره الأمريكى ترامب، ومرءوسوه من ممثلى الجهات السيادية الأمريكية. ما يقول كثيرون من المراقبين فى موسكو بعدم جوازه، وضرورة الرد بالمثل. فيما يقول آخرون بضرورة توزيع الأدوار، وهو ما رصدناه فى معرض حديث سيرجى لافروف، وزير الخارجية الروسية مع ممثلى عدد من القنوات الفيدرالية والأجهزة الإعلامية الروسية. وكان لافروف هدد بضرورة تجميد المباحثات مع الغرب والاتحاد الأوروبي، والانصراف إلى ما هو أهم، معيدا إلى الأذهان مواقف سلفه الأسبق اندريه جروميكو الذى طالما عرفه العالم تحت اسم «نيت»(لا) فى إشارة إلى دوام رفضه لكل المشروعات والمقترحات الغربية. ونقلت «روسيا اليوم» عنه ما قاله تعليقا على احتمالات فرض عقوبات غربية جديدة ضد روسيا «أن لا أحد يلغى مبدأ المعاملة بالمثل فى العلاقات الدولية، وسنرى ما قد يجرى إقراره من عقوبات جديدة لا بد أن ترد عليها روسيا بطبيعة الحال. فليس من الممكن أن نترك هذه العقوبات دون رد». ويتبدى ما يشبه الإجماع فى مواقف المعلقين والمسئولين فى روسيا، حول أنه بات أكثر من واضح أن الدوائر الغربية لن تعود عن غيٍها، وأن فكرة العقوبات لم تعد جديدة، وأنها سوف تظل قائمة بغض النظر عن سياسات روسيا. وثمة من قال إن الغرب سوف يظل يبحث فيما تقوم به روسيا على الصعيدين الداخلى والخارجي، ليختار منه ما يمكن أن يشهره ويستخدمه مبررا لأى عقوبات لاحقة، ومن ذلك ما نشهده اليوم تحت عنوان «تسميم نافالني «نوفيتشوك» ــ الغاز المُسمٍم الذى ثمة من يزعم انه اُستخدم فى تسميم نافالني.
سارعت صحيفة «دى فيلت» الألمانية واسعة الانتشار بالتعليق عليه بقولها إن تجميد المباحثات لن يفيد أيا من الجانبين، بل يمكن أن يفضى بعلاقات الطرفين إلى مأزق أو طريق مسدود. ونقلت الصحيفة عن المعلق الألمانى تروستين كراول تصريحه حول أن عقوبات الاتحاد الأوروبى ضد روسيا لم تتسم بعد بالجديد المؤثر، مؤكدا أنها تظل عند المستوى السابق، من كونها عالية الصوت، فى الوقت الذى تعلن فيه «أن الأبواب تبقى مفتوحة أمام الطرف الآخر». وضربت الصحيفة الألمانية مثالا على ذلك ما أعلنته المستشارة الألمانية انجيلا ميركل من تصريحات ردا على ما قيل فى برلين بشأن تسميم الكسى نافالني، الناشط السياسى الذى يسمونه فى الغرب «زعيم المعارضة الروسية». وكانت ميركل هددت بأنها لا تستبعد تبعات ذلك واحتمالات تأثيره على مشروع «التيار الشمالي-2». لكنها لا تستطيع فى نفس الوقت أن تطرح اليوم إيقاف استمرار العمل فى بناء هذا المشروع ضمن العقوبات ضد روسيا، وأن بلادها تظل متمسكة بالوفاء بتعهداتها إزاء المعاهدات الموقعة، بما فيها التى يستند إليها النظام العالمي.
وانطلاقا مما تبدى فى كلمات وتصريحات لافروف وزير الخارجية الروسية من تهديد وتشدد، تحول الإعلام الروسى والرسمى فى الصدارة، إلى ضرورة التشدد من جانب روسيا، وإعلان العالم أجمع أن لروسيا الحق فى مناطق نفوذها فى الفضاء المتاخم لحدودها ومنها فى أذربيجان وأرمينيا ومولدوفا، إلى جانب استعادة القواعد الروسية التى كانت موجودة فى الخارج، حسبما أشار فلاديمير سولوفيوف المعلق السياسى اليهودى الروسى فى برنامجه «أمسية مع سولوفيوف» (شبه الرسمي) على شاشة القناة الرسمية «روسيا-1» خلال الأيام القليلة الماضية. وكان الرئيس بوتين أعلن فى مستهل سنوات ولايته الأولي، وفى معرض «شهر العسل» مع نظيره الأمريكى جورج بوش الابن فى عام 2001، عن تخلى روسيا عن قاعدتها البحرية فى فيتنام التى سبق أن اتفق حولها الاتحاد السوفيتى مع القيادة الحزبية الفيتنامية فى عام 1979، إلى جانب تخليها عن محطة الرادار الروسية بالغة الأهمية فى كوبا. غير أن بوتين سرعان ما عاد عن مثل هذا التوجه، بعد أن تجاهل بوش ما فعله فى إطار «النيات الحسنة»، بإعلانه عن انسحاب بلاده رسميا من معاهدة الحد من انتشار الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية فى نهاية ديسمبر من عام 2001. ما استفز بوتين وكان سببا رئيسا لسرعة تحوله فى الاتجاه المعاكس. ونذكر أنه صارح نظيره الأمريكى بأن ذلك سوف يدفع روسيا إلى اتخاذ خطوات مماثلة، وهو ما رد عليه بوش بقوله «فلتفعلوا ما تقدرون عليه». ولم تدرك الولايات المتحدة مغبة مثل ذلك التوجه إلا فى فبراير 2007 حين أعلن بوتين فى مؤتمر الأمن الأوروبى عن رفضه لعالم القطب الواحد، وتعهده بالعمل من أجل تعزيز القدرات العسكرية لبلاده. وسرعان ما قرن الرئيس الروسى الأقوال بالأفعال، ما تمثل فيما أعلنه بعد سنوات قلائل عن توصل روسيا إلى صناعة الكثير من الأسلحة الحديثة، ومنها فرط الصوتية التى قال إن العالم لن يصل إلى مثيلاتها قبل عام 2025. ولعل ما فعله فى سبتمبر 2015 يوم أعلن عن بدء العملية العسكرية الروسية فى سوريا، وما تبع ذلك من توصله مع سوريا إلى توقيع معاهدات بناء قاعدتين عسكريتين إحداهما بحرية فى طرطوس، وجوية فى حميميم، يقول إن روسيا تمضى ودون أن تلوى على شيء صوب دعم تعزيز مواقعها على خريطة السياسة العالمية.
رابط دائم: