أمى ليست لها أمنيات..
لم أرَها تطلب شيئًا مطلقًا، أو تتمتم بينها وبين نفسها بأمنيةٍ ما، أو تبوح برغبةٍ ما فى صدرها بينها وبين إخوتى البنات. راضيةً تمامًا، لا تريد غير الستر من تلك الحياة، وأن تزوج أولادها الأربعة، خاصة الفتيات فتقول دائمًا «جواز البنات سُترة».
بررت ذلك بأن أبى هو السبب؛ أبى المعنى الصادق لـ«سى السيد»، فطلباته وتعليماته تشملنا جميعًا، نُلبى ما يريد قبل حتى أن يطلبه، حتى لو كان ضد رغبتنا؛ هو قبطان السفينة الذى لا يناقشه أحد.
على العكس من أمي.. يسافر أبى ويتحرك ويسهر بحرية، ولم يحدث -ولو لمرة واحدة- أن طلبت أمى الذهاب معه إلى أى مكان، بل حتى عندما يخبرها برغبته فى سفرها معه، كانت تصمت، فقط تبتسم وتقول «وهاسيب العيال لمين؟! تروح وترجع بالسلامة».
بعد وفاة أبي، بدأت أمى تخبرنا بأمنياتها، ولكن تخبرنا بها على طريقتها، لا تخبرنا أو تطلبها مباشرة، ولكنها تدس الأمنية وسط حديثها، أو فى أثناء تعليقها على أحداث أحد المسلسلات. لا أعلم كيف ظلت تلك الأمنيات القليلة والبسيطة حبيسة صدرها، وكأن موت أبى هو السبب فى خروجها أو حتى التفكير فيها، أخبرتنى ذات مرة بأمنيتها فى الذهاب معنا للمصيف، قبل ذلك كانت ترفض بشدة، متعللةً بأنها تريد أن تتركنا على حريتنا، ولا تريد مضايقتنا بوجودها، فأخذناها معنا لقضاء عدة أيام فى الإسكندرية، كانت المرة الأولى التى تشاهد فيها البحر من مدة كبيرة، أعجبها جدًا لدرجة أنها لم تفارق رمال الشاطئ، وتركت المياه تداعب قدميها ونصف جسدها وهى جالسة ممسكة بيوسف ابن أختي، وكأنها تعوض سنوات كانت تراودها فيها هذه الأمنية.
كانت هذه بداية كثير من الأمنيات التى أخبرتنا بها لاحقًا، أمنيات سهلة التحقيق، كدهان الشقة بألوان جديدة، ورغبتها فى تليفزيون وريسيفر جديد شاهدته عند أحد الأقارب، وأمنيتها الدفينة فى تحويل غرفة نوم أبى إلى غرفة بها أنتريه بمقاعد ضخمة وأريكة كبيرة، بدلًا من الطقم الأسيوطى الذى كان يحبه أبي.
ظلت لأمى أمنية غالية وصعبة المنال وهى أن تذهب للحج، وأن تقبل الحجر الأسود، وتُمَلِّس بكفيها على شباك مقام النبى صلى الله عليه وسلم، لكنها لم تطلب ذلك صراحةً، لعلمها صعوبة أو استحالة تحقيقه بسبب ظروفنا الضيقة، إلى أن تضاءلت أمنية الحج وصارت مجرد عُمرة. لم تكن أمى تهتم بأن يطلق عليها لقب «الحاجَّة»، كأمِّ سعيد التى ذهبت إلى الحجاز وغضبت من جارتها «أبلة زينب» عندما نادتها ذات مرة باسمها مباشرة دون لقب الحاجَّة، وقالت وهى تقف على السلم وكأنها تريد أن يسمع جميع سكان العمارة صوتها، وتأكيدًا لحصولها على ذلك اللقب صعب المنال «أنا ملِّست بإيديَّا دول على الحجر الإسود، وبُست قبر الرسول، ومسحت دموعى فى ستارة الكعبة الشريفة».
لم يكن يعنى أمى أيُّ شيء من ذلك، ولا حتى عندما كان بعض النساء يخبرنها بأن بيتنا يمتلئ بالشياطين ولن تدخله الملائكة بسبب أن كل جدرانه مزينة بالكتب واللوحات والصور، حتى إن أكد ذلك أخى الأكبر.
وكان أول ما فعلته أمى بعد رحيل أبي، هو نزع كل الصور واللوحات عن الحوائط، وأضافت إليها الكتب وسلمتها لأول بائع روبابكيا يمر عليها، وبعد كفاح مرير فى النقاش مع البائع، عاد بعد ساعة بعربة أكبر كى يحمل مكتبة أبى ولوحاته وصوره، نجحت أمى فى أن تكسب ثروة عظيمة لم تتجاوز مائتَيْ جنيه عن كل البهجة والحياة التى طالما زينت جدران شقتنا الصغيرة. لم تترك أمى أى صورة تذكِّرُها بشكل حياتنا الماضية، حتى صورة أبى الكبيرة التى تستقبلك بمجرد دخول الشقة، جددتها وعلقتها فى غرفته التى صارت مغلقة دائمًا، بعد أن وضعت فيها الأنتريه ذا المقاعد الضخمة.
ذات يوم اكتشفنا أن لأمى أمنية ليست صعبة أو مكلفة كالذهاب للحج، بل كانت أمنية غريبة علينا، تحقيقها سهل لكنها غريبة، أرادت أمى اقتناء صورة للسيدة العذراء، تلك التى تظهر فيها وهى تضع غطاءً أبيضَ مائلًا للزرقة على رأسها، فى شكل ملائكى وبين يديها المسيح طفلًا.
يعمل أخى الكبير مدرسًا، يخرج كل يوم لعمله بعد أدائه صلاة الفجر، يفتح المسجد المجاور لمسكنه، ثم يؤذن ويقيم الصلاة، وكثيرًا ما شكاهُ سكان الحى بسبب غلظة صوته وخشونته فى الأذان، يخرج لعمله بعد الفجر ولا يعود إلى بيته إلا بعد أذان العشاء، حينها تضع له زوجته -أو أى من بناته- الطعام، فيأكل ويحمد الله ثم ينام، مبتعدًا عن المشكلات والعيال وضجيج الحياة اليومية، ويكفيه ما يراه طوال اليوم من تلاميذ المدرسة التى يعمل بها، أو من مشكلات ولؤم وخبث الموظفين فى لجان الامتحانات التى يذهب إليها بعد مواعيد المدرسة كمنحة تدرُّ عليه مبلغًا لا بأس به يعينه على مشقة الحياة. وبالرغم من ابتعاده عن أى مشكلات عائلية، غضب من أمى عندما علم بأمنياتها الغريبة فى أثناء زيارته الأسبوعية لها بعد أدائه صلاة الجمعة فى مسجد قريب من بيتها لأن المسجد مكيف، فينال الثوابين.. ثواب صلاة الجماعة وثواب زيارة أمه العجوز، وحذرها بنبرة فيها من صوت أبي، والذى كان يرتدى جلبابه أيضًا فى ذلك الوقت «بلاش تخاريف، حرام عليكِ إحنا مش نصاري، وبعدين خلى البيت فاضى علشان الملايكة تسكنه، الحمد لله إنك عرفتِ ترمى الصور والحاجات اللى كانت موسخة الحيطان. الله يرحمه أبويا بقي».
لم يدهشنى رد فعل أخى الكبير، دهشتى الحقيقية كانت من ذكره كلمة «نصاري» بدلًا من مسيحيين، وهو لفظ لم أكن أسمعه إلا نادرًا، وكأنه يريد بهذا اللفظ أن يقطع السكة على أمى فى تحقيق أمنيتها. غضبت أمى من أخي، وحزنت جدًا، فأمنيتها ليست صعبة التحقيق لكنها صعبة التنفيذ، ولم تكن تعتقد أن يكون رد فعله بهذه القسوة.
أمى التى تبدلت بعد رحيل أبي، تشعر بأنه لن يقف أمامَهَا شيءٌ فى تلك الحياة، وكأنها تريد أن تسترد من الدنيا ما سلَبَهُ رضاها وصمتُها فى حياة أبي.
أم مينا.. الجميلة المبتسمة دائمًا، تسكنُ آخر طابقٍ بالعمارة المقابلة لنا، وهى من أصدقاء أمى المقربين، موظفة ذات هيبة تعمل فى إحدى المصالح الحكومية، فى الثامنة صباحَ كل يوم تأتى لها سيارة خاصة بسائق لتقلها إلى العمل وتعود بها فى الرابعة تمامًا.
عند وقوفنا فى شرفتنا، نرى صورتين للسيدة العذراء فى الغرفة الداخلية لشرفة أم مينا، إحداهما للسيدة العذراء بمفردها، والأخرى للسيدة العذراء تحمل طفلًا صغيرًا، وكانت حواف الصورتين تضيءُ عندما تظلم الغرفة، تضيء بملامحِ مريمَ العذراء فى ردائها الأبيض المائل للزرقة بطَرحةٍ تهبط على جانبى جسدها، ويضيء معها وجهُ الطفلِ المعبِّر عن السيد المسيح. كانت الصور تشعرنى بالراحة والسكِينة، لكن أخى الكبير كان يخيفنا دائمًا بقوله «الشياطين ساكنة الصور دي، وفى يوم الشيطان هياكل أم مينا، هى وولادها».
أشعر بالضيق لأنْ يلتهمَ الشيطان أمَّ مينا الطيبة، وهى التى لم تفعل لنا شيئًا، نظيفة وهذا واضح أيضًا من غسيلها الذى تنشره بترتيب ونظام محدد مثل أمي، وكانت أمى تردد دائمًا «أنضف غسيل بعد غسيلي.. غسيل أم مينا، بتعرف تزَهَّر البياضات». أشعر بالأسى على أم مينا، وأفكر.. لماذا هى مسيحية ونحن مسلمون؟ كنتُ الولدَ الوحيدَ فى عمارتنا الذى يذهب للعب مع ابنها مينا، رغم أننى كنت أكبره بثلاثة أعوام، يمتلك مينا ألعابًا غالية، ولديه درَّاجة جميلة ومميزة بلونها الأزرق ومقعدها الأحمر، وجرس صوته مبهج، ولا يرفض عندما أطلب قيادتها.
جميع نساء عمارتنا يُحَذِّرْنَ أولادَهُنَّ من الأكل أو اللعب مع أولادِ أم مينا، كنت أرى دائمًا البسكويت والحلوى التى ترسلها أم مينا فى أعيادها لنساء عمارتنا ملقاةً فى صناديق القمامة، إلا أمي؛ كانت تقول عليهم «دول اخواتنا»، ولا أنسى ذات مرةٍ عندما سمعتُ أبلَةْ سُميَّة وهى تضرب ابنها بقوة لأنها وجدته يأكل من بسكويت أم مينا الذى وزعَتْهُ علينا فى إحدى المناسبات الدينية لهم، ضربته بخرطوم أنبوبة الغاز وقالت له «تولع فى نار جهنم إن شاء الله يا طفس». كنت سعيدًا بأن أم مينا صديقة أمى المُقرَّبَة، وبأن سكنها فى هذا الطابق المرتفع كان رحمة لها بعيدًا عن نساء بقيَّة عمارتنا حتى لا تلقاهُنَّ، رغم ابتسامتها المميزة.. ورغم أننا لم نَرَ منها ما يضايقنا.
أفصحَتْ لها أمى -ذات يوم عبر محادثتهما من البلكونات- عن أمنيتها فى اقتناء صورة للسيدة العذراء، ضحكت أم مينا فى طِيبة وحبٍّ، كانت الصورة التى تريدها أمى معلقةً على جدار الغرفة المُفضِيَةِ إلى الشرفة، وكانت أمى تشاهدها من شرفتنا، لم تنتظر أمُّ مينا.. خلعت الصورة عن جدار غرفتها -رغم رفض أمي- وغلفتها بورقِ جرائدَ وشريطٍ لاصق حتى لا يراها أحد، وأرسلت ابنها الصغير مايكل هابطًا من الطابق السادس وصاعدًا إلينا فى الطابق الخامس.
فرحت أمى بتحقيق أمنيتها، ووضعت الصورة مكان صورة أبى كى تستقبل السيدةُ العذراءُ كلَّ من يدخلُ الشقة بملامحها الشفيفة الحانية، وكان يمكن لأمى فى حركتها فى الشقة أن ترى العذراء، أو تراها وتتابعُها العذراءُ كما كانت تعتقد، اكتشفت أنها تحدِّثُ صورة العذراء، ولا تحدثها إلا فى أمر واحد.. هو تحقيق أمنيتها فى الذهاب للعمرة، ورغم أن أمى نشأت فى حيِّ «السيدة زينب»، وكان بجوار بيتهم القديم مسجد «السلطان الحنفي»، الذى به بئر ماء يقال إذا شربتَ منها تحققت أمنيتك، فهذه البئر يقال إن مياهها تأتى من مياه بئر زمزم، ورغم ذلك.. لم تلجأ أمى إليه قَطُّ، وظلت أمنيتها معلقةً بينها وبين صورة العذراء.
غضب أخى الكبير من أمى عندما شاهد صورة العذراء مريم، ثار وحاول إزالتها وتحطيمها ليضع مكانها صورة أمى التى جاء بها بعد تكبير حجمها ووضعها فى إطار غالى الثمن، لكن أمى رفضت بشدة، وغضبت منه قائلةً له وهى تطل ناحية صورة العذراء وتعدِّل وضعها على الحائط «إنت بتصلى صحيح لكن مش فاهم حاجة.. دى أم النور تدبر الأمور». واعتاد أخى بعد ذلك عند زيارة أمى أن يدخل الشقة وهو ينظر إلى الأرض حتى لا تصطدم عيناه بصورة العذراء.
بالرغم من الصداقة القوية بين أم مينا وأمي.. لم تدخل بيتَنَا إلا مرتين! مرة عند تعبِ أختى الصغرى -الذى حُجِزَتْ بسببه فى القصر العينى لمدة عامين- وحينها جاءت ودسَّت فى يد أمى ظرفًا به مبلغٌ من المال، والمرة الأخرى عندما جاءت للتعزية والمواساة فى وفاة أبي.
ذات يوم جاءت أم مينا إلى أمى لزيارتها، جاءت بابتسامتها الطيبة الحانية، تمسك فى يديها ظرفًا كبيرًا بُنِّيَّ اللون عليه شعار واسم المصلحة التى تعمل بها. تسارعت دقات قلب أمى دون أن تعرف السبب، ولم تفهم سببَ الزيارةِ المفاجئةِ، ولم تقابل ابتسامة أم مينا إلا باتساع من الدهشة فى عينيها، وظلت تنظر ناحية صورة العذراء على الحائط، معتقدة أن أمَّ مينا جاءت لاسترداد الصورة. كل ذلك لم يبدده إلا ابتسامة أم مينا فى وجه أمى وهى تقول لها «مبروك يا أم حمادة.. عمرة مقبولة إن شاء الله».
لم تجد أم مينا من أمى إلا صمتًا أحالَهَا إلى تمثال فرعونى وقد نُقِشَتْ على وجهه ابتسامةٌ شفيفةٌ لا يُعرف لها سبب. وأكملت أم مينا وهى تخرج الأوراق من الظرف الرسمى الذى تحمله «ماتستغربيش يا أم حمادة.. إنتِ وقع عليكِ الدور فى العمرة». لم تكن أمى تعى شيئًا مما يقال، فأكملت أم مينا وهى مبتسمة لأمى الساهمة كتمثال.
كانت أم مينا قد وضعت اسمها فى «كشفِ المصيف» فى الهيئة التى تعمل بها، والساعى الذى أعطته الورقة باسمها «لم يأخذ باله» ووضعها بالخطأ فى صندوق السفر للعمرة بدلًا من صندوق المصيف، وقد أصابها الدور، هذا كل ما حدث. كانت أم مينا تتحدث فى سعادة كبيرة «لا تقلقى من مصاريف السفر، فهى عمرة بالتقسيط سيُخصم ثمنُها من الراتب على عدة شهور.. لذا فإن كل شيء ميسر فى هذا الأمر، كل ما سنفعله هو تغيير الأسماء فقط، وها هى الأوراق كى تجهزى نفسك للسفر للعمرة بدلًا مني».
أخذت أم مينا فى الضحك بشدة، وظلت أمى جالسة ساهمة فى سكون إلى أن انتهت أم مينا من ضحكاتها وكلامها، ثم بدأت ترفع رأسها ببطء شديد وبالتدريج وتنظر ناحية صورة العذراء المعلقة فى مدخل الشقة وقالت فى صوت حاسم «مش قلت لك يا عدرا هو مش فاهم حاجة! أنا قلت له أم النور تدبر الأمور».
رابط دائم: