في الوقت الذي جاءت نتائج اجتماعات الأمم المتحدة في نهاية شهر سبتمبر المنصرم، لتشجيع الحراك الفردي السريع من أجل إنقاذ كوكب الأرض بعدما يئست من تحرك حاسم ومسئول من جانب بعض الدول، علي وجه الخصوص الغنية منها، خرج عشرات الآلاف من شباب أوروبا وغيرهم في العديد من دول العالم إلي الشوارع والميادين من أجل إدانة السياسيين الكبار الذين يتلكأون في علاج الكوارث التي حلت بالأرض، وعلي رأسها جائحة كوفيد - 19 التي مازالت تدق أجراس الخطر وتطلق صرخة الطبيعة لإجبار البشر علي تغيير المسار وإنقاذ الكوكب الذي نتشارك جميعًا الحياة علي سطحه.
علي الرغم من الحذر النسبي في مقاطعات الاتحاد السويسري، مع صداع عودة ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كوفيد -19، فإن «المناخ» أصبح صداعًا مزمنًا يعصف بهدوء البلد المعروف بارتفاع معدلات رفاهية أهله، وكونه قبلة سياحية لأثرياء العالم. وعلي الرغم من اعتماد الحكومة السويسرية بعض التدابير لخفض ثاني أكسيد الكربون في قطاعات النقل والبناء والصناعة بحلول عام 2050، فإن كارثية الوضع الحالي دفعت الآلاف للتظاهر علي خلفية التغيرات المناخية الوطنية وفقدان الثقة في أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. وطالب المتظاهرون بالتحرك الفوري لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والمزيد من الإجراءات لحماية المناخ، وهي المطالب نفسها التي رفعها المتظاهرون من شباب العالم، بالتنسيق مع حركة «أيام الجمعة من أجل المستقبل» العالمية، التي أسستها الناشطة والطالبة السويدية جريتا تونبرج. شارك في مظاهرات سويسرا ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص، أغلبهم من المنتمين لحركة «كلايمت سترايك/ إضراب المناخ»، التي تضم تحالف الحركات المناخية المختلفة من ثماني عشرة مدينة علي رأسها برن العاصمة، وزيورخ، وفريبورج، ودافوس، ولوزان، وجنيف، ونوشاتيل، وبازل. يتناقض ذلك الغضب العاصف مع الصورة المتعارف عليها عن سويسرا، باعتبارها رائدة في مجالات الابتكار وجودة الحياة وإعادة التدوير، إلا أن للحقيقة وجها آخر، يذكره نص بيان الصندوق العالمي للحياة البرية: «في المتوسط، يستخدم سكان سويسرا الطائرات ثلاث مرات أكثر من المواطنين الأوروبيين، ويقودون أكبر السيارات في أوروبا، ويُعدّون من أكبر منتجي النفايات في العالم»، إذ يتجاوز سكان سويسرا البالغ عددهم نحو ثمانية ملايين ونصف مليون نسمة، حصتهم من الانبعاثات العالمية المقترحة، فضلًا عن كوارث التسرب الحراري من المنازل التي تستخدم نظام التدفئة المركزية بالزيت، والتوسع في البناء وإهدار المساحات الخضراء لمصلحة وحوش الاستثمار العقاري، فضلًا عن المخلفات الصلبة من بلاستيك وزجاج وكبسولات القهوة وغيرها. وبشكل عام، تعاني البلاد مؤخرًا تغيرات مناخية تسببت في ارتفاع متوسط درجات حرارة أشهر الصيف التي اقتربت العام الماضي من حاجز الأربعين، وهو ما تزامن مع ذوبان أنهار الجليد وظاهرة فصول الشتاء الدافئة، مما يهدد باختفاء ثلوج جبال الألب أيقونة الأيقونيةً. وهو ما دفع الأجيال الشابة لرفض النهج الاستهلاكي الرأسمالي في البلاد في مواقف رمزية وفاعلة، إذ علي سبيل المثال وعلي مدار العامين الماضيين، شهدت ساحات القضاء سجالا بين ناشطين ضد الاستثمار في مجال الطاقة البترولية وبنك كريدي سويس، ليتم حسم الأمر في يناير الماضي بعد قيام محكمةٌ محلية بتبرئة اثني عشر شخصًا احتلوا فرعين للبنك في لوزان وفي جنيف في نوفمبر عام 2018، ونظموا بداخلهما مباراة تنس، للاعتراض علي رعاية البنك للاعب التنس روجيه فيديرر، لتبييض وجه مسئوليه من التورط في الاستثمار في العمليات المضرة بالمناخ. وقد أعلن البنك لاحقًا وقف تمويله تطوير محطات الطاقة العاملة بالفحم الحجري، في محاولة للمواءمة بين خططه الاستثمارية مع الأهداف المنصوص عليها في اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ.
الطيور الغاضبة
علي صعيد آخر، لم يشعر الناشطون بطائل من اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة، التي دارت افتراضيا في نهاية الشهر المنصرم، لاعتبارات منها عدم قدرتها علي فرض أي عقوبات علي الدول المتسببة في خراب الكوكب، وذلك علي الرغم من أهداف تنمية الألفية الثالثة التي أطلقتها المنظمة من أجل مستقبل أفضل. وتجلت محدودية دور المنظمة، في تركيزها علي دعم التحرك الفردي لخلق أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة عالمية، إذ عاودت الأمم المتحدة الاحتفاء بحملتها الداعية لحث الأفراد علي التحرك، والتي تمت بالتعاون بين إدارة الاتصالات العالمية لتطبيق أهداف الألفية السبعة عشر (DGC) وشركة سوني للترفيه وحملة المناخ «تحركوا الآن/ آكت ناو» للاستفادة من شهرة أبطال فيلم الطيور الغاضبة المقتبس عن لعبة فيديو تحمل الاسم نفسه، والذي تدور أحداث الجزء الثاني منه حول تصدي مجموعة من الطيور والحيوانات لمشروع يهدف لتدمير جزيرتهم علي يد نسور جشعة. تم إطلاق الحملة لأول مرة في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في ديسمبر 2018، ودعمها المؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي، وشارك فيها كبار الطهاة العالميين، بتقديمهم حيل الطهي لعمل أطباق شهية صديقة للكوكب، وتمت دعوة عرائس ترتدي ماسكات أبطال فيلم الطيور الغاضبة، في عدد من الأنشطة ومؤتمرات الأمم المتحدة. كما أطلقت الأمم المتحدة تطبيقا إلكترونيًا بالتزامن مع إعلان حملتها المصور، لتشجيع الأفراد علي الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري والعناية بكوكب الأرض، من خلال تغيير العادات الاستهلاكية الخاطئة باتخاذ خيارات ذات تأثير أقل ضررًا علي البيئة. يتضمن التطبيق عشرة إجراءات بسيطة، وهي: الاستحمام في 5 دقائق لعدم إهدار الماء النقي، واستخدام حقائب للأسواق والبضائع قابلة لإعادة الاستخدام، وتقليل فترات القيادة واستخدام بدائل المواصلات العامة أو المشي وركوب الدراجات الهوائية، وغلق الأنوار غير المستخدمة وقضاء أوقات أطول في الطبيعة، وفصل الأجهزة غير المستخدمة، وشراء خضراوات محلية لتفادي النقل، وتناول وجبات نباتية المصدر والمكسرات والحبوب، وتدوير كل ما يمكن استغلاله، وإعادة ملء الزجاجات بالمياه والعصير الطازج، وعدم الركض وراء الموضة وإعادة إنتاج الملابس القديمة بمنحها فرصة أخري بتجديدها أو تدويرها أو مبادلتها.
خطوة لاحتواء الغضب
وهكذا، في ظل أوضاع شائكة واستثنائية، من المقرر أن تنظم الأمم المتحدة وبريطانيا، قمة دولية للمناخ في الذكري الخامسة لاتفاق باريس في الثاني عشر من ديسمبر المقبل، لمناقشة خطط الدول المشاركة تمهيدا لقمة المناخ القادمة المؤجلة بسبب جائحة كوفيد-19 إلي نوفمبر 2021. يأتي ذلك بعدما باتت أهداف اتفاق باريس غير كافية للحد من الانبعاثات الضارة، التي فرضت حالة طوارئ عالمية طبقا لتصريحات أنطونيو جوتيريش الأمين العام للامم المتحدة، الذي طالب بالاستجابة والتضامن بسرعة وحسم لمواجهة لتلك الأزمة الوجودية التي تتفاقم، بالانسحاب الرسمي للولايات المتحدة من الاتفاقية في ديسمبر المقبل، بناء علي قرار اتّخذه الرئيس الحالي دونالد ترامب، وهو ما ينوي منافسه الديمقراطي جو بايدن التراجع عنه في حال فوزه، وإعادة الولايات المتّحدة إلي الاتفاقية وإقرار الإصلاحات اللازمة، لوضع بلاده علي مسار الاتحاد الأوروبي وغيره من بلدان العالم، ببلوغ الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
رابط دائم: