كان يومًا فارقًا في حياتي، عندما سمعت خبر عبور قواتنا المسلحة الباسلة إلي سيناء يوم 6 أكتوبر، واتجهت فورا إلي مستشفي الدمرداش، حيث كنت أدرس الجراحة في سنتي الأخيرة بكلية الطب، وقد ساعدت الجراحين في إسعاف المصابين بالمعركة، ثم رأيته «الملازم عادل».. شابٌا غارقا في دمائه، لم أتبين ملامحه، وبعد ر فحص سريع، حملناه إلي غرفة العمليات، وبعد سويعات ، خرج عادل من غرفة العمليات بجسد نظفناه من الدماء، ويحمل جُرحًا استكشافيًا كبيرًا في جدار بطنه، وأزال الجراحون منه الطحال، واستأصلوا جزءًا من الكبد، ورتقوا عدة ثقوب بالأمعاء، وأيضًا خرج من غرفة العمليات بدون ذراعيه، وأخذت علي عاتقي مهمة تمريض «عادل»، فكنت أعطيه الدواء، وأطعمه وأسقيه، وأساعده في قضاء حوائجه، وأكتب له الرسائل، وكنت أقضي ليلي جالسًا علي كرسي بجواره، ولا أفارقه إلا لتلبية حاجة مريض آخر في نفس عنبر المصابين، وبعد ثلاثة أيام ظهرت الابتسامة الواثقة تشرق علي قسمات وجهه، وكانت تزداد رسوخًا عندما يزوره والداه في المستشفي ، ولم يمنع ذلك - بالطبع - أنهما كانا يفارقانه وأعينهما تفيض بالدموع، علمت من والديه أنه تخرج من الكلية الحربية واتجه مباشرة إلي السويس ليشارك بعد أيام قليلة في عبور الكرامة، واستشعرت فيه الأخ والأب والإبن، استشعرت فيه جيش بلادي الذي استعاد لي كرامتي، استشعرت فيه مصر كلها بأبنائها وهوائها ونيلها وأرضها وسمائها كثيرًا ما كانت ملامح الأسي تفيض علي وجهي ألمًا وشفقة علي «أخي عادل» الذي أكبره بعامين، وكان يعنفني علي ما أشعر من أسي تجاهه، فلقد كان فرحًا فخورًابهذا الوسام الذي سيحمله طيلة حياته، وكان يمدني وكل طاقم العنبر من العاملين بالعزيمة والإصرار، وكان - وهو في فراشه - يوجهني لمساعدة هذا أو ذاك، ومضي أسبوعان، وتماثل للشفاء، لكنه ظل بلا ذراعين، ظللنا صديقين نتواصل من حين لآخر، وعلمت أنه قد حصل علي ترقية استثنائية مع نوط من أنواط القوات المسلحة، وعلمت بعدها بفترة أنه قد أتم إجراءات زفافه من ابنة خاله التي كانت مخطوبة له وهو لا يزال طالبًا في الكلية الحربية، ومضت الأيام والسنون وتباعدنا رويدًا رويدًا …لكن صورته لم تفارق خيالي لسنوات طويلة كلما وقفت في جناح العمليات الجراحية، وإني أعتذر له إن كانت مشاغل الدنيا قد فرقتنا ، وسلامي له في هذا العالم أو في العالم الآخر.
د. عمرو شريف ــ أستاذ بطب عين شمس
رابط دائم: