رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عــبدالناصـــر.. و«قطيع الذئاب»!

د.محمد حسين أبوالحسن

صعبة هى الكتابة عن جمال عبدالناصر، بقدر ما هى مغرية، ما الذى بقى كى يقال عن رجل ملء الدنيا ذكره، بعد مرور خمسين عاما بالتمام والكمال على رحيله، المدهش أن الرجل مازال حيا، برغم الاغتيال المادى والمعنوى طوال عقود، كثيرون يؤرقهم طيفه، جاءهم من أقصى المدينة يسعى فقتلوه، شرعوا بعده فى ذبح الآمال وتعقيم العقول. نجحت مخططاتهم، صار الماضى رمادا، لكن ناصر بدا عصيا على الموت، يبقى رمزا لحركة نضال وطنى وقومى متحررة، من شباك المتطفلين المتاجرين، كسرت قيودا كهنوتية وحواجز أصولية، وأسقطت ورقة التوت عن المستعمرين وقاومت الاستتباع، وكفلت لمصر إرادة مستقلة ومشروعا نهضويا لم يكتب له الوصول إلى مرفأ الاكتمال.

إنه «موسم الهجوم على عبدالناصر»!.. لكن لماذا يحدث هذا مع ناصر تحديدا؟!

....................

الإجابة عن ذلك قد نجدها فى مقال كتبه الأستاذ أحمد بهاء الدين، فى يناير 1970، بمجلة روز اليوسف، قبل وفاة عبدالناصر، ثم أعاد نشره فى أكتوبر، عقب وفاته «28 سبتمبر1970»، بعنوان: «ماذا كان عبدالناصر.. وماذا سنكون؟!».

يقول بهاء الدين: «من النادر جدا فى عالم السياسة أن يحدث مثل هذا التركيز على شخص قائد، كالتركيز الحادث اليوم على عبدالناصر.. الشرق الأوسط منطقة حساسة لا يمكن أن تغفلها أى قوة كبرى من حسابها. كل القوى تحمل فى مخيلتها «خريطة» تتمناها للمنطقة، وعبدالناصر يقف حجر العثرة فى طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع.. فرنسا يوما، وانجلترا يوما، وأمريكا يوما، وإسرائيل كل يوم، متعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها..والمشكلة هى زعامة عبدالناصر «أضف إليهم إيران وتركيا وإثيوبيا...». ذلك أننا إذا أردنا فى حقيقة الأمر أن نلخص دور عبدالناصر لقلنا: إن معركته هى معركة من يريد أن تكون «الإرادة» فى المنطقة إرادة عربية.. ضد الذين يريدون أن تكون الخيوط المُحركة فى المنطقة مربوطة فى النهاية إلى أيد غير عربية.. عبدالناصر يعترض طريق جميع الغرباء عن المنطقة».

ويوضح بهاء الدين أن إسرائيل ومن وراءها يتوقعون بكسر عبدالناصر ونفوذه أن تتشتت المنطقة، وأن تزيغ الأبصار فيها زمنا طويلا.. كلٌ يتلفت حوله؛ باحثا عن ملاذ، عن مظلة واقية.. ومن يحاول الصمود بمفرده فسيكون ضعيفا معزولا، سرعان ما يحاط به.. ويضيف بهاء: إن وجود عبدالناصر يجعل اللعبة كلها مربوطة به. والقوى الكثيرة التى تريد التخلص منه تريد أن تسترد حرية اللعب.. قيادة عبدالناصر تعترض طريق جميع الغرباء عن المنطقة.. وتحمى جميع أهل المنطقة.

يتابع: يقول ليّ مسئول عربى: الأجنبى حين يتعامل معنا يحسب الآن حساب أننا من الأمة العربية، وهذا شىء أوجده عبدالناصر. الدرجة الموجودة من عدم التنسيق ومن الترهل العربى ومن عدم تنبه الأعصاب الحساسة فى الجسد العربى يجب أن نعترف بها.. ولكن يبقى أن ثمة شيئا يضع حدا أدنى لهذا، يحول دون أن يتحول عدم الاشتغال بالمعارك الجانبية إلى فوضى شاملة، فتنقَض الذئاب المنتظرة على القطيع المشتت.. إنه قيادة عبدالناصر، وهذا يثير الأعداء ويدمر عقولهم- يؤكد بهاء الدين- يثيرهم أن ترتبط «اللعبة» فى المنطقة كلها به وهو منتصر.. ويثيرهم أكثر أن ترتبط به وهو مهزوم..

ذلك أنهم يرون المغزى هنا أعمق والارتباط أقوى.

إن كلمات أحمد بهاء الدين لم تفقد صلاحيتها؛ لأن عظمة ناصر نابعة من ارتباطها بعظمة أكبر، عظمة مصر نفسها، وإيمانه بأن نهوض مصر بدورها القيادى المحورى فى المنطقة، هو سر حياتها وحياة العالم العربى، وإلا فإن قطيع الذئاب ينهش الجميع واحدا بعد آخر؛ مصر قاطرة قيادة الأمة، لا يقوم مقامها قطر آخر، المسألة هنا ليست مكانة، وإنما مسئولية، وليست مكاسب وإنما تكاليف وأعباء، فرضتها الجغرافيا السياسية لمصر، كما فرضها التطور التاريخى للمجتمع المصرى، وليس هذا الدور والمسئولية وأعباؤها، تكرما على أحد، بل هو دفاع مباشر عن النفس، دفاع عن مصر نفسها؛ فلا حماية لها إلا بنهوضها بدورها، مهما عظمت تكاليفه.

بقيادته ثورة 23 يوليو وجد الشباب العربى فى زعامة عبدالناصر فرصة لاستعادة الأمجاد وتحرير الأوطان المحتلة، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، بقيادة «بطل» جاء فى موعده، لأمة بلا رأس آنذاك؛ ساندت «قاهرة» عبدالناصر حركات التحرر العربى، ثم تعدى ذلك إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفى كل الأحوال كان «قطيع الذئاب» لمصر ولناصر بالمرصاد، رصدت بعض الدول ملايين الدولارات لاغتياله وهدم نموذجه وإطفاء إشعاعه. وبعد انفجار الجحيم فى يونيو 67، حاولوا التملص مما اقترفوا، بينما حاول عبدالناصر استيعاب الهزيمة بالاستقالة من رئاسة الجمهورية، لكن الشعب المصرى، ومعه الأمة العربية، رفض استقالته، وطالبه بتحمل مسئولية النكسة وبالعودة إلى الميدان مقاتلا، لأن اختراق ليل الهزيمة مؤلم، لكنه يظل أقل كلفة من الصمت الموازى للموت. عاد الفارس «المهزوم» إلى الميدان، ظل يجاهد بعزم لايلين حتى أسلم الروح؛ فخرج الشعب والأمة يشيعه إلى مثواه الأخير، فى جنازة لم يشهد البشر نظيرا لها، عبر التاريخ، وكان ذلك استفتاء بلا تزوير، حول مشروع ناصر ومكانته، استفتاء «صناديقه» القلوب والعقول.

وبداعى الإنصاف فإنه يمكن تقسيم مشروع عبدالناصر إلى قسمين، يتعلق الأول بالإستراتيجيات، ويدور الثانى حول تجربة الحكم. وقد أثبت عبدالناصر براعة منقطعة النظير فى صوغ إستراتيجيات تحرير الوطن والشعوب الشقيقة والصديقة، ومواجهة المخططات المعادية والنهوض والتقدم، لا يمكن أن تنسى تأميم قناة السويس وبناء السد العالى أعظم مشروع تنموى فى العالم بالقرن العشرين، والإصلاح الزراعى الذى حول فلاحى مصر من مجرد «أقنان» إلى ملاك أراض، أى صاروا «مواطنين أحرارا»، ومجانية التعليم لشعب فقير يحوز نصف فى المائة منه الثروة والباقون يحيون على الكفاف، لن أحدثك عن القفزة الصناعية التى جعلت اقتصاد مصر أقوى من نظيريه الصينى والكورى الجنوبى، ويتحمل هزيمة بوزن «النكسة» دون انكسار.

فى المقابل يظهر التشريح الموضوعى للجسم السياسى أن عبدالناصر فشل فى إقامة نظام ديمقراطى تعددى، يفصل بين السلطات، ويعتمد صندوق الانتخاب الحر، وفى شكل الحكم وعلاقته بالحريات العامة المتوارية.. نتيجة تقديمه الحرية الاجتماعية على الحرية السياسية، فلم تنج الحرية الاجتماعية بغياب الحرية السياسية، وكانت تلك- فى ظني- خطيئته الكبرى أو «غلطة الشاطر»، فتم الانهيار الكلى للمنظومة عقب رحيله، وارتاح حكام عرب للخروج من ظل عبدالناصر، وعادوا لممارسة أدوارهم القديمة، وبمرور الزمن، جاء يوم صار فيه الغرباء سادة المنطقة، يعترضون طريق كل وطنى، يهيلون التراب على أشباح عبدالناصر التى تؤرقهم، حتى لا يتكرر النموذج. «قطيع الذئاب» من كل لون يمرح كيفما يشاء، فى بلاد العرب بعدما صار «الإذعان» سلاما، مع أن الإذعان لا يفضى إلى سلام حقيقى، بل يكون مجرد هدنة من طرف واحد، تخفت خلالها حدة الصراع وتضيع ملامح الحقيقة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق