عشت ذلك الزمان، حين كان صوت جمال عبدالناصر يجمع الأمة من محيطها إلى خليجها حول المذياع، كانت علاقته بالجماهير مباشرة، وظل طوال حياته ملهماً لها، حتى فى لحظات الهزيمة ورغم مرارتها خرجت الملايين فى مصر ترفض تنحيه، وبعدها بأقل من شهرين خرجت جماهير السودان تحييه وتشد من أزره وزحفوا وراء سيارته من المطار إلى مقر إقامته، حتى كتبت «التايمز» على غلافها «يحيا المهزوم».
وحتى بعد رحيله ظل عبدالناصر كما كان فى حياته ملهماً للجماهير، ولايزال حاضراً فى ذاكرتها، كلما مضت السنون أمعنت سيرته فى الحضور، يستذكره ناسه فى كل وقت، وعند كل ضيق، وتثير الملمات أشواقهم إلى البكباشى الشاب ذى الـ 34 عاماً الذى استطاع أن يدشن قواعد العدل الاجتماعى فى مواجهة داخلية مع قلة استحوذت على النسبة الأعظم من ثروات البلاد وتركت الفتات يقتات منها بقية المصريين، واستطاع فى مواجهاته الخارجية أن يحافظ على استقلال القرار المصرى ضد قوى عظمى أرادت أن تستتبع مصر وتدخلها فى حظيرة الطاعة.
كانت أول رسالة تلقتها الجماهير عن مضمون «الانقلاب العسكري» الذى قام به الضباط الأحرار فى غضون ٤٨ يوماً فقط من وقوعه، عندما شهد يوم ٩ سبتمبر عام ١٩٥٢ إطلاق مشروع الإصلاح الزراعي، وبدأ عبدالناصر يلف قرى مصر ونجوعها ومراكزها وبنادرها يخطب، وبدأت علاقته المميزة بناس البلد من يومها، ثم تعاظمت عقب محاولة اغتياله التى دبرها التنظيم السرى لجماعة «الإخوان» قبيل نهاية العام 1954، ونال من وقتها تأييداً شعبياً جارفاً، وحين ترشح ليكون أول رئيس مصرى منتخب حاز أغلبية كاسحة، فشكل وزارة برئاسته، وأنشأ ثلاث وزارات جديدة، هى وزارة التخطيط، ووزارة الصناعة، ووزارة الإصلاح الزراعي، وبدا أنه قرر أن يخوض معركة التنمية فى الداخل.
كانت أمريكا قد امتنعت عن إمداد مصر بالسلاح اللازم للدفاع عن أراضيها، خاصة بعد تكرار الاعتداءات «الإسرائيلية» على الحدود المصرية، فكان رد عبدالناصر بالاتجاه للاتحاد السوفيتى للحصول على السلاح فيما عُرف بصفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية، ثم كان أن قررت واشنطن سحب عرض البنك الدولى لتمويل بناء السد العالي، فكان رد جمال عبدالناصر هو تأميم قناة السويس فى 26 يوليو سنة 1956.
وانقسم العالم إلى قسمين: الأول يؤيد حق مصر فيما قامت به، وعلى رأسه الاتحاد السوفيتى، وتضم الهند ودول أوروبا الشرقية، وكثيرا من دول إفريقيا وآسيا، وقسم آخر يعارض هذا القرار بشدة بقيادة أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ويشمل دول حلف الأطلنطى والدول التى تدور فى فلك الغرب، وكانت النتيجة النهائية لهذا الصراع، هى قيام حرب السويس، فى 29 أكتوبر سنة 1956، حيث واجهت مصر عدوانا ثلاثيا ضم جيوش كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، واستمرت أعمال القتال حتى بعد صدور قرار وقف إطلاق النار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 2 نوفمبر، ولكنه توقف صباح يوم 8 نوفمبر، وتحت الضغط الدولى وفى ظل اشتداد المقاومة المسلحة على الأرض لقوات العدوان انسحبت قوات الدول الثلاث من منطقة قناة السويس فى 22 ديسمبر سنة 1956، وبقيت القوات الإسرائيلية تحتل أجزاء من سيناء حتى أجبرت على الانسحاب نهائياً منها يوم 7 مارس سنة 1957. من اللحظة التى برزت فيها شخصية جمال عبدالناصر على الخريطة الدولية والعربية، أولاً فى مؤتمر باندونج فى العام 1955 ثم من بعد فى إدارته لحرب السويس فى مواجهة قوى الاستعمار العالمى، صار الرجل بطلاً للقومية العربية، وارتفعت شعبيته فى المحيط العربى إلى حدٍ لم يعطه العرب لغيره من قبل، وأصبحت القاهرة مركزاً لحركات التحرر العربية والإفريقية والآسيوية، وفى نهاية عام 1957 عقد بالقاهرة مؤتمر الشعوب الإفريقية والآسيوية، وقد كان هذا امتداداً لمؤتمر باندونج، وحضر المؤتمر ممثلون عن حكومات الدول المستقلة، وممثلون عن الشعوب التى كانت تكافح فى سبيل الاستقلال. وبدا أن القاهرة صارت عاصمة للدول الساعية إلى الاستقلال والشعوب الراغبة فى التحرر.
على المستوى الداخلى حقق عبدالناصر فى النصف الأول من الستينيات أهم وأكبر وأنجح خطة تنمية فى تاريخ مصر بنيت خلالها آلاف المدارس والمصانع، وأقام قاعدة تصنيعية كبيرة، وصادر الأراضى من الاقطاعيين، ووزعها على الفقراء فأصبحوا أحراراً بعد معاناة طويلة من العبودية، وحرر العمال المصريين من ربقة سيطرة الرأسماليين، وأشركهم فى الأرباح وفى الادارة لأول مرة، وبنى السد العالي.
وحين قررت القوى الغربية معاقبة مصر على قرارها المستقل أطلقت يد إسرائيل لتحدث الهزيمة فى سنة 1967 وأعلن عبدالناصر باسم الأمة رفض الهزيمة وتحمل مسؤوليتها بشجاعة واستقال على أثرها من منصبه.
انتفضت الجماهير العربية بعد إعلانه الاستقالة وامتلأت شوارع مصر والبلدان العربية بلا استثناء وفى الكثير من مدن العالم أجرت الجاليات العربية فيها مظاهرات عارمة، والكل يطالبه: بالعدول عن الاستقالة، واستجاب عبدالناصر لرغبة الجماهير التى هى بالنسبة إليه أمر لا يرد، وحين أطلق موشى ديان (وزير الحرب الإسرائيلى آنذاك) تصريحه الشهير بأنه ينتظر مكالمة هاتفية من عبدالناصر، يعلن استسلام مصر، كان رد عبدالناصر : لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف بإسرائيل، وانطلقت المقاومة الفلسطينية للرد على الهزيمة، ودخلت مصر أطول وأشرس مواجهة مع اسرائيل تلك التى سميت بحرب الثلاث سنوات وقد تكبدت فيها إسرائيل الكثير من الخسائر، وكانت بمثابة «البروفة الجنرال» لحرب أكتوبر 1973.
لم يكن غيابه فى سبتمبر 1970 هو نهاية المطاف لرجل أعطى لوطنه وأمته روحه حتى آخر لحظة فى حياته، بل ظل حضوره طوال هذه الفترة يفوق الغياب خلال كل المناسبات الكبيرة والحوادث المهمة التى مرت بها مصر طوال هذه السنين.
ظلت الجماهير تستحضره فى الملمات الكبري، وكانت السلطات تستدعيه فى اللحظات الفارقة، كأن المصريين يحنون إلى وجود القضية الوطنية المشتركة والصراع مع العدو، إلى أيام كانت فيها «الهزيمة العسكرية» بكرامة، أفضل ألف مرة من السلام المزيف والتذلل للحليف الغربى والهزيمة المعنوية فى كل يوم، يحنّون إلى أيام كانوا فيها قيادة عربية شامخة.
من لم يعترف بفضل عبدالناصر فى حياته جاءت الحوادث بعد مماته لتعيد تعريف الناس بفضله وقيمته، وظل يكسب أرضًا جديدة وهو فى قبره كل يوم، ورغم مرور نصف القرن على رحيله، مازال حضور جمال عبدالناصر طاغياً فى وجدان المصريين، عصيا على الغياب، وأكبر من كل محاولات تغييبه.
رابط دائم: