يعرف السردين المهاجر فى بلدان شمال البحر المتوسط، ايطاليا وفرنسا واسبانيا وجهته جيدا، وهو يقطع آلاف الأميال صوب المياه المصرية الدافئة. وتدرك أسرابه المنهكة من طول مسافة الرحلة أن مدينة بورسعيد تحديدا هى الأكثر احتفالا بوصوله.
ومابين بورسعيد والسردين حكاية عشق تتجدد سنويا لتضيف فاصلا مميزا للقصص التى تربط هذه السمكة الرحالة مع موانى «صقلية»، و«الدار البيضاء»، و«وهران»، و«تونس العاصمة» و«طرابلس الغرب». فهناك لا صوت يعلو فوق صوت الضيف لذيذ الطعم، الذى يتصدر الموائد وقوائم مطاعم الأسماك، فبعضها لا يقدم سواه على مدار العام، خاصة فى الأحياء والأسواق الشعبية القديمة. ولعل من أشهر أمثلة هيمنة «السردين» عالميا، طقوس تناوله خاصة فى «سوق بوابة مراكش» بالدار البيضاء. فهناك تتراص المقاعد الخشبية حول المنصات التى تجلس إليها السيدات المتخصصات فى تقديمه مقليا مع الخبز فقط. وأمامهن حشود الزبائن لا تنتهى سعيا وراء مذاق لا يتغير أبدا.
أما فى بورسعيد، فيأتى موسم «السردين» قويا، فقد غرقت الأسواق بحصيلة الصيد اليومية لمراكب الصيد العاملة بالبحر المتوسط ومياهه الإقليمية أمام شواطئ المدينة. وكذلك حصيلة أعمال الصيد بالجر من مناطق «الضاهرة»، غرب المحافظة وبعض القطاعات بشاطئ بورسعيد، التى لا تتوقف طوال النهار.
و«السردين» وحده قادر على جمع الطبقات الاجتماعية المختلفة ، وتذويب الفوارق بينها، نظرا لعشق أبناء المدينة وانتظارهم له سنويا. وقد أبدع المطبخ البورسعيدى فى تقديمه بمختلف الوجبات ووفقا لمختلف أشكال الطهو، ما بين المشوى والمقلى والمملح.
ووحده السردين قادر أيضا على تحطيم أسعار جميع أنواع الأسماك الأخرى بالأسواق فى أثناء موسم صيده. فيصبح هو سيد المائدة البورسعيدية، أمام الأنواع الأخرى من الأسماك مثل البورى، والدنيس، واللوت، والقاروص.
فالمهاجر المنتظر يتمتع بسعر زهيد يتراوح ما بين 15 إلى 30 جنيها للكيلو الواحد بالأسواق الشعبية. فضلا عن بعده كل البعد عن شبهات « النشأة فى المزارع» والتى تحوم حول مختلف أنواع الأسماك.
ويقول السيد العجوز، وهو فران بأحد مخابز شىِّ الأسماك بالمنطقة السابعة، إن المخبز يكاد لا يشوى سوى السردين فى هذه الأيام، خاصة مع كبر حجمه وحلاوة طعمه، وهو شيء يرتبط باستقبال مصر له بمزيج من المياه العذبة ومياه البحر الأبيض المتوسط، عند مصب النيل فى دمياط ومصبات بحيرة المنزلة. ووفقا للإرث الشفهى بين الأجيال المختلفة فى بورسعيد، فإن القصص المروية تشير إلى ما يعرف بـ«موسم السردين» قبل بناء «السد العالى»، حيث كان البحر المتوسط يفيض بالسردين عقب فيضان النيل. فكان يغرق الأسواق ليباع بقروش زهيدة، ويتفنن الأهالى فى وضع العلامات المميزة على «صوانى» الشىِّ بالطباشير والليمون، تفاديا لاختلاطها. وكان «موسم السردين» بالنسبة للصيادين، مشابها لموسم جنى القطن بالنسبة للفلاحين، فقد كان قديما سببا لفتح أبواب الرزق، فكان يتزامن معه إتمام الزيجات المعلقة وإعلان الأفراح وسداد المديونيات وتمويل المشروعات التى تحتاج إلى مال وفير.
رابط دائم: