رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

إدراك حدود الزعيم

د. عبدالمنعم سعيد

لو أن الزعيم الخالد جمال عبدالناصر توفى منذ نصف قرن فى بلد آخر، لكان مكانه الآن فى كتب التاريخ، وملفاته موضوعا للتلاميذ فى المدارس والباحثين فى الأرشيف، وبالنسبة للعامة ذكرى يرونها على طوابع البريد وأسماء الشوارع وأوراق النقد يعرفون بها مسيرة الشعب والمجتمع فى عصور مختلفة. ولكن فى مصر القصة لها لون آخر حيث الحاضر كثيرا ما يكون نتيجة لآمال وأحلام محبطة جرت فى الماضى السعيد، وذروة للزمن الجميل الذى لم يتم جماله، ومن ثم يصير الحاضر هو الماضى لعل قدرة القادر العظيم تعيدنا من خلال آلة الزمن إلى النقطة التى كنا نود حقا أن تكون البداية للمسيرة السعيدة التى لم تصل – للأسف – إلينا. ولأن الماضى صعب ومعقد، ولأن نقطة البداية فى التاريخ هى نقطة وهمية على الخط المستقيم، فإن اختزال الأمور يصبح من طبيعة الأمور، فتصير الشعوب والأمم والطبقات أشخاصا نقية تعكس ثنائيات متناقضة تناقضا حادا بين الأخيار والأشرار، والأبطال والجبناء، والأنبياء والخونة. وقد كان تصنيف عبدالناصر دائما يقع فى الدائرة الإيجابية بين هذه التصنيفات، وحلت الأوصاف القاسية على من راجع مسيرته وسيرته من القادة والمثقفين والعامة، من عاد لهم الوعى بعد غيبوبة أو كان لهم منذ البداية وجهة نظر أخرى فيما ينبغى أن يكون عليه حال البلاد والعباد ليس كما كانت فى تاريخها المجيد، وإنما فى زمنها وعصرها حيث تستحق فيهم مكانة ورفعة أكثر كثيرا مما هى عليه.

................................

من ناحية كان عبدالناصر ابن عصره وزمنه، فقد عمل فى ظل الحرب الباردة وزهوة الاشتراكية والمعسكر الاشتراكى وانطلاق حركة التحرر الوطنى العالمية، وفى أوقات سلم فيها حتى البنك الدولى بدور الدولة فى التحديث والتنمية. ولكنه من ناحية أخرى لم يدرك، كما لم يدرك آخرون فى العالم، ما كان كامنا فى كل ذلك من إشكاليات هيكلية لا تسبب ضعف أو فناء بعضها فقط، وإنما تركت بصماتها ونفوذها على تابعيها ليس فقط فى عهد عبدالناصر ولكن حتى اليوم. والحقيقة هى أن عبدالناصر مثل إخفاقا آخر لتجربة الحداثة والتحديث فى مصر، بعد إخفاق تجارب محمد على وإسماعيل وباقى الأسرة العلوية فى اختراق حجب التخلف عن العالم، والوصول إلى من تقدموا منه، أو باختصار أن تكون مصر جزءا من أوروبا كما كان يريد الخديو إسماعيل، أو من العالم الصناعى الحديث كما كان الغرب والشرق كله الذى خطف أبصار الدنيا فى الصناعة والتكنولوجيا وكافة أشكال القوة الناعمة. الإخفاق الناصرى كان واضحا فى حماية الوطن حينما جرى احتلال مصر فى عهده مرتين، كما كان الإخفاق ساريا فى التنمية حينما كانت بذور التقدم الرأسمالى يجرى نبتها فى كوريا الجنوبية وتايوان واليابان وتركيا بينما عزت على مصر.

الدرس الرئيسى للإخفاق المصرى عبر العصور كان فى عدم إدراك الحدود؛ والحقيقة أن «آفة حارتنا لم تكن النسيان» كما ذكر نجيب محفوظ فى رائعته «أولاد حارتنا»، وإنما هى عدم إدراك الحدود من قبل أفرادنا أو جماعاتنا. محمد على لم يكن يعرف عبور الحدود عندما اقترب من القسطنطينية، ولا كان إسماعيل يعلم أن هناك سقفا للاعتماد على الموارد الخارجية فى تنمية مصر. وعندما قامت الدولة المصرية الحديثة فى أعقاب ثورة 1919 لم يعرف لا الملك فؤاد أو فاروق الحدود حتى تلك التى رسمها دستور 1923 فكان حل البرلمان رياضة قومية، وكان دستور 1930 فى حقيقته تجاوزا لحدود النضج السياسى الذى وصلته الأمة المصرية. وعندما قامت ثورة 23 يوليو كان ذلك نتيجة أن النظام الملكى لم يعرف الحدود التى يقف عندها، فكان الملك مستبدا، وكانت الجماعة الحاكمة رغم كل ما أنجزته على طريق تحديث البلاد، قد فشلت فى بناء القاعدة الاجتماعية اللازمة لها. ولكن ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر لم تعرف حدودها هى الأخرى مع الخارج فكان احتلال سيناء مرتين، ومع الداخل وبعد تأميم القناة وخطة خمسية واحدة ناجحة، وبناء السد العالي، ومجانية التعليم، ضاعت الحدود تماما عندما لم تعرف الدولة أنها يمكنها تقديم تعليم مجانى ولكن مع نوعية منخفضة لا تفيد خطط التنمية فى البلاد، وأنه لا يمكن للدولة أن تحقق النمو من خلال قيامها بكل المهام من أول بناء المساكن وحتى منح خطوط التليفون لأن الدولة ببساطة فى إدارتها للفقر جعلت إنفاقها أعلى من مواردها.

ولكن عبدالناصر كان بطلا بالفعل وحكيما فى الواقع عندما اختار السادات نائبا له، وعندما جلس فى صباح الثامن من يونيو 1967 مع الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد النكسة الكبرى وأخبره أن الأقدار لم تكن هى التى ضربتنا وإنما كنا نحن الذين ضربنا أنفسنا. كان المصرى العظيم يمسك بتلابيب الحقيقة بشجاعة نادرة فقد وصلت المسيرة إلى طريق مسدود، والثورة وتوحيد العرب وتغيير العالم إلى حائط الصد.

وعندما اختار لخلافته زكريا محيى الدين لأسباب المقاربة مع الغرب، كانت هى ذات الأسباب التى جعلته يختار السادات من بين كل أعضاء مجلس قيادة الثورة لخلافته فى العصر الجديد.

وعندما وضع الأساس لإنشاء منطقة للتجارة الحرة فى بورسعيد كان يضع الأساس للانفتاح الاقتصادى والتحول لاقتصاد السوق. وعندما تحدث عن التعددية السياسية فى اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى كان يضع بذرة المنابر والأحزاب التى نفذها السادات فيما بعد. وباختصار كان الزعيم يضع أساس كل شيء من جديد قائما على إدراك الحدود، وإذا كان هو بالفعل هو الذى بدأ عملية إعادة بناء القوات المسلحة، وعمدها بالنار فى حرب الاستنزاف، والتى أخذها السادات بعد ذلك إلى حرب أكتوبر، فقد كان هو الذى وضع الأساس الجديد الواقعى للتسوية السلمية ومسيرة السلام.

فحتى حرب يونيو كانت قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالتقسيم وعودة اللاجئين الفلسطينيين هى القرارات الحاكمة لأى حل سلمى للصراع العربى الإسرائيلي. وبعد الحرب كانت موافقة الرئيس عبدالناصر على القرار 242 هو بداية التسوية على أسس جديدة فلم يرد فيها ذكر لا للقرار 181 الخاص بتقسيم فلسطين، ولا للقرار194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين، واعتمد القرار الجديد على فكرة «الغموض البناء» عندما عرضت للانسحاب من «الأراضي» أو «أراض» تم احتلالها فى «النزاع» الأخير التى ظلت معنا حتى الآن ويستنكرها كثيرون باعتبارها نتاج دبلوماسية كيسنجر. وعندما وافق الرئيس عبدالناصر على مبادرة روجرز كان لأول مرة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى يسلم بإمكانية إجراء تعديلات «طفيفة « فى الحدود، أى بإمكانية ضم إسرائيل لأراضى عربية، وكان ذلك هو الأساس لكل التطورات الدبلوماسية التى لحقت منذ محاولات يارنج الشهيرة فى الوساطة وقتها وحتى خطة ترامب فى الوقت الحالي. وعندما قبل بإمكانية وجود قوات دولية بين الطرفين العربى والإسرائيلى كان يقبل فى الواقع بقيود على السيادة المصرية، وكان قد قبلها قبل ذلك بعد احتلال سيناء الأول عام 1956 فيما يخص سيناء ومضيق تيران، وكان ذلك هو ما اعتمد عليه السادات بعد ذلك فى مسيرة التسوية مع فارق واحد وهو أنه لم يسمح أبدا بأية تعديلات « طفيفة « فى الحدود، كما أنه جعل قيود السيادة على الجانبين المصرى والإسرائيلى وليس على جانب واحد كما كان عليه الحال بين حربى 1956 و1967.

رحم الله عبدالناصر وقادة مصر جميعا بعد أن تعلمنا منهم الدرس أن الأصل فى الأمور هو بناء عناصر القوة، ليس بالخصوصية التى لا يعرفها العالم، وإنما بالقواعد التى أخذت بها دول قبلنا إلى حيث يوجد الأقوياء والقادرون.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق