هو إمام الفلسفة العربية العقلانية العلمية فى القرن العشرين.. العلم الشامخ لثقافتنا وفكرنا الحداثى التجديدى، رائدا للدرس المنطقى فيها، ولاحتفائها بالعقل وبالعلم وأصوله المنطقية المنهجية.. قطبا من أقطاب الإسهام الثقافى واسع النطاق. امتدت حياته (1905 ــ 1993) عبر عقود القرن العشرين، وترامت آفاق همومه وإنجازاته فى ارتياد دروبه، ارتيادا مسلحا بالنظرة الثاقبة والمنظور الشامل، ووضوح الرؤية حين التمثل، ووضوح العرض حين التمثيل.. وجهد دءوب لا يكل ولا ينى.
أسفر الجهد السابغ عن عطاء طويل عريض عميق، نيَّفَ على خمسين كتابا، فكان عالم زكى نجيب محمود مترامى الآفاق، متعدد الساحات، تجوب فى رحابه فتوحات ثقافية شتى. فهو يروى قصة الأدب وقصة الفلسفة وفصولا من قصة الحضارة. يترجم محاورات لأفلاطون وغيرها، يقف مع الشعراء، يعطينا المثال النابض لجزالة اللغة العربية الجميلة والغيرة البالغة على وضعها ودورها الحضارى. ينظر للفن نظرة نقدية متكاملة، كلاسيكية البنية رومانسية المنزع بتعبير شيخ النقاد والمترجمين د.محمد عنانى. يبدع فى فن المقال الأدبى وفى درسه للمنطق على السواء، يتعرض للسياسة ويحمل همومها القومية، يحدثنا عن وعيه الحاد بالاستعمار، والأرق الذى أمضه بجريمة قيام إسرائيل وقد شهد وقائعها عن كثب إبان دراسته فى لندن. يغوص فى أعماق المجتمع مشخصا لأدوائه وباحثا عن المصلحة العامة، ثم يخاطب الإنسان الفرد معليا شأن فرديته الحرة الكريمة. لا يشق له غبار فى خوض غمار الحضارة الغربية، ويصح العزم منه على اقتحام كنوز التراث، والخوض المكين فى الإشكالية الحضارية الكبري: الأصالة والمعاصرة.
فى كل هذا كان «المنهج العلمي» هو المدخل، الأساس والعماد، الفكرة المفتاح والإطار الضام لهذا الثراء والتعدد وتنوع الإسهامات؛ فحق القول إنه البوابة الكبرى لعالمه. هو المنطلق لرسالة زكى نجيب الحضارية الشاملة، حتى صح تلخيصها فى: أن يقتحم المنهج العلمى ثقافتنا وتنبث دماؤه فى شرايينها. يتآلف معها وتتآلف معه جوانبها وعناصرها وفعالياتها وواقعها. فهو العقلانية التجريبية.. حوار الفرض والتجربة.. العقل والحواس.. إبداع النظر على محك الواقع التجريبى.
ولئن كان المنهج العلمى يستقى أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضارى والنبيل، فإنه ينبث فى البنية الثقافية ليس البتة كتقنية خاصة بذوى الاحتراف، بل كبلورة لأسلوب التفكير السديد المثمر، الملتزم بالواقع والوقائع، بالانتقال من المشكلة لحلها. فلا غرو أن رآه الأستاذ المعلم قانون العمل الثقافى المشتبك بالواقع الحضارى.
فى مطلع حياته كأستاذ للفلسفة اشتهر بحمل لواء الوضعية المنطقية التى هى الفلسفة حين يصبح المنهج العلمى البؤرة ليشع نورا ونارا تحرق ما عداه، فيندفع كثيفا حادا متطرفا رافضا كل الأطراف الأخرى.. حتى يغدو إرهاباً فلسفياً يفتك بكل ما هو لا علمى فلا يبقى ولا يذر. ولئن كانت الوضعية المنطقية قد انزوت الآن، فإنها إحدى مدارس «تيار التحليل اللغوى»، الذى يعنى إخضاع اللغة والتعبير اللغوى لمحكات المنطق العلمى الصارم. وذلكم هو التيار الذى اجتذب زكى نجيب واستأثر بعقليته المنطقية، وقد كان كما قيل بحق أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء.
حين انفتح على التراث بفعل السنوات المباركة التى قضاها فى جامعة الكويت؛ انتقل من الإيمان الشامل بالوضعية المنطقية إلى التفعيل الجزئى لها فى مجالها، مهموما بالإشكالية الكبري: الأصالة والمعاصرة، على أساس أن المنهج العلمى هو المعاصرة التى يجب أن تنصب فى قوالب تراثنا اللغوية والقيمية، فضلا عن إبراز الدور التاريخى لتراثنا فى قصة المنهج العلمى، ونبذ كل لا معقولٍ فيه لا يتآلف مع هذا المنهج، مُنتهيا إلى الصيغة التى تجمع بين العقل والوجدان أو العلم والقيمة. يقولها صراحة: «سؤالى عن المعاصرة هو السؤال: كيف التزم النظرة العلمية الصارمة؟».
وإجمالا يؤكد زكى نجيب قدرة المنهج العلمى وضرورته لابتلاع اللغو السياسى، ليخرج من أحبولة اليمين واليسار التى كانت شائعة فى القرن العشرين، يهبط أصحابها من الطرف الذى يتخيرون إلى المشكلات. الطريق الأسلم فى ناظريه هو طريق المنهج العلمى الذى يبدأ من المشكلات لينتهى إلى حلها.
مازال ماثلا فى ذهنى لقاءٌ إبان ربيع 1978، سجل أستاذنا وقائعه فى مقال بجريدة الأهرام بعنوان (من المشكلات إلى حلولها)، حيث يقول لى: «لا تسألينى يا ابنتى عن أيديولوجية اليمين واليسار، بل اسألينى عن طريق النظر العلمى وكيف يكون».
رابط دائم: