بعد رائعة «سيرة الحب» عن حياة وإبداعات الموسيقار بليغ حمدى يواصل قطاع الفنون الشعبية تقديم سير العظماء من مبدعى النغم بعرض عن خالد الذكر العبقرى سيد درويش الذى تعيش أعماله فى وجدان الملايين رغم مرور ما يقرب من مائة عام على رحيله.. بل تعتبر موسيقاه أكثر حيوية وسرعة فى الإيقاع وأعمق دراميا وأبسط للغناء الجماعى من معظم -إن لم يكن كل- ما قدمه عباقرة الموسيقى من بعده.

كتب الإعداد الدرامى للعرض المسمى «سيد درويش» السيد إبراهيم ووفق إلى حد كبير فى إظهار بدايات الشيخ سيد ورفض أسرته احترافه الغناء واستعانة المقاول الذى كان يعمل معه بصوته لتحميس عمال البناء لمضاعفة المجهود وقصة حبه لجليلة وزواجه منها ولكنه لم يقدم جانب الكفاح الوطنى بما يليق بسيد درويش الذى كان سابقا لعصره فى الوعى بمخاطر الاستعمارين الإنجليزى والتركى معا بينما انخدع جانب كبير من المثقفين بفكرة دولة الخلافة وكتب شعراء كبار من رواد الشعر العربى قصائد حماسية تنحاز لتبعية مصر للباب العالى.. وسقط آخرون فى فخ الانبهار بالمستعمر البريطانى أو الفرنسى.. ولكن سيد درويش وحده من الموسيقيين ومن خلفه بيرم التونسى وبديع خيرى أدرك بوعى وفطنة أولاد البلد أن تركيا وبريطانيا وجهان لعملة واحدة.. وحرر موسيقاه من البشارف والزخارف العثمانلية وأعجب بالموسيقى الغربية ولكنه لم يقلدها ولكنه اختار استلهام الموسيقى الشعبية المصرية ومن نداءات الباعة والصيادين والفواعلية وصناع القلل القناوية بل وحتى المساطيل يقول على لسانهم:
ساعة مايبقى الوطن فى عوزة
يحرم علينا شربك يا جوزة
دى مصر عايزة جماعة فايقين
وبدا واضحا رفضه تتريك مصر فى مسرحية العشرة الطيبة وأيضا مسرحية شهر زاد حيث يقول البطل زعبلة للأميرة شهر زاد التى تعرض عليه الحب وترفعه إلى جانبها على العرش:
طول ما نهر النيل بيجري
أنا لا أنذل عمري
وان حكمتى أى مصري
احكمى ع المستحيل
وانحاز سيد درويش للفلاحة أم إسماعيل وسخر من المقلدات للغرب فى قوله «بنات البندر دول آه... بتوع الآن دو ترواه ... يكفانا اللى شفناه .. من فات قديمه تاه»
وعندما أمرت السلطات بمنع ذكر اسم سعد زغلول فى أى حديث أو عمل فنى لأنه يمثل الرجل الذى اختاره الشعب وجمعوا له التوقيعات وبصموا بأصابعهم ليكون المتحدث الرسمى لهم خالف سيد درويش وحده التعليمات بذكاء الفنان المصرى وغنى للبلح الزغلول قائلا:
يازرع بلدى عليك يا وعدي
يا أصل سعدى زغلول يا بلح
عليك بنادى فى كل وادي
قصدى ومرادى زغلول يا بلح
وعندما حاول الاستعمار التفرقة عن طريق الأديان والطوائف تصدى فنان الشعب للحملة المغرضة وقال:
حب جارك قبل ما تحب الوجود
ايه نصارى ومسلمين قال ايه ويهود
دى العبارة نسل واحد م الجدود
قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك
ونعود إلى المسرحية التى يجب أن يفخر بها جميع العاملين فيها لاسيما الفنان المجتهد محمد عادل أو ميدو كما يعرفه الجميع والذى غنى بصوته دون تطريب بوعى كبير وفهم لشخصية وموسيقى سيد درويش وبدا قريب الشبه من الفنان الراحل دون أن يبذل جهدا فى الماكياج أو محاولة تقليد الصوت وهو إضافة كبيرة للمسرح الاستعراضى وممثل يمتلك أدواته ويؤمن بأن البساطة والصدق فى الأداء هما انجح وسائل التعبير وبالطبع كانت عودة النجمة لقاء سويدان للمسرح الغنائى إضافة كبيرة للعرض تحسب للمخرج أشرف عزب وكذلك توظيف قدراتها فى التمثيل والغناء والاستعراض وجسدت شخصية جليلة العالمة والتى يراها المؤلف وفقا لبعض المصادر سيدة منحرفة.. وأدت الدور بحرفية عالية دون أن تسقط ولو لحظة واحدة فى فخ الابتذال أو خدش الحياء.. وقدمت رشا سامى دور المطربة حياة تلميذة وحبيبة الشيخ سيد فى المرحلة الأخيرة من حياته ببساطة وأداء مقنع وجميل
كما قدم سيد جبر بخفة ظله شخصية صبى المقهى فى كوم الدكة وصنع كاريكاتيرا محببا لابن البلد الفهلوى الذى يحاول التكسب من أى موقف وادعاء أنه مكتشف سيد درويش وأجاد محمد عنتر أداء ولكنه أمين عطاالله صاحب ومدير فرقة الأخوين سليم وأمين عطا أول من عمل سيد درويش معهما على المسرح.. كما تألق علاء الحريرى فى تجسيد شخصية الضاحك الباكى نجيب الريحانى ولم يجسد الصوت وأسلوب الحركة فقط.. وإنما إحساس المرارة الداخلى الذى اكتشف الريحانى وهو موهبة كبيرة تستحق مساحة لائقة فى الأعمال القادمة ولجأ محمد الشربينى إلى تجسيد شخصية فكاهية هى فى الواقع بعيدة كل البعد عن شخصية الشاعر الكبير بديع خيرى أقرب أصدقاء سيد درويش ونجيب الريحانى معا.. ولقد كان بديع رجلا خجولا انطوائيا على عكس ما يكتب بل لم يكتشف الريحانى موهبته فى كتابة الأزجال والأغانى إلا بعد سنوات من عملهما معا كما يذكر الريحانى فى مذكراته وظهر ديكور محمد عبد الرازق موحيا بالقدم وأجواء المكان وإن كان حجم الديكور الضخم قد عطل إيقاع العمل بعض الشئ عند تغيير المناظر.. وعبرت ملابس د. نجلاء الفقى عن طبيعة الشخصيات ببساطة وأثرت استعراضات وفيق كمال العرض الفنى المعتمد أصلا على الأغانى والاستعراضات ويحتاج المخرج فقط إلى مراجعة بعض التفاصيل التاريخية واختزال الحوار المطول فى بعض المشاهد حتى يزداد العمل تألقا.
رابط دائم: