-
شوقى ضيف يرصد ويحلل قرونا من أدب الرحلات
تعتبر الرحلات أحد الأعمدة فى صرح الحضارة العربية، وفرصة لاكتشاف الآخر، وشهد القرن الرابع الهجرى زيادة عدد الرحالة وظهور خرائط البلاد الإسلامية، وظهور المعاجم، ثم رحلات البغدادى إلى الشام ومصر وقسطنطينية، وبعض رحالة جغرافيى المغرب العربى فى القرن الخامس، بينما تميز القرن السادس بقوة الرحالة والنقلة الحضارية الكبيرة التى خلفوها، بداية من الأندلسى وابن جبير، وبعدها ظهور كتب : معجم البلدان للحموي، وعجائب المخلوقات للقزويني، و«نخبة الدهر فى عجائب البر والبحر» للدمشقي، و«نهاية الإرب فى فنون الأدب» للنويري، و«مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار» للعمرى، ولكن تقلصت الرحلة العربية نسبيا فى القرنين التاسع والعاشر، وتوقفت فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر، وبدأت فى البزوغ مرة أخرى فى القرن التاسع عشر.
وبشكل عام فقد برزت فى نصوص أدب الرحلات وظيفتان للرحالة أحدهما معرفية، إعطاء معلومات عن الأماكن والشعوب، والأخرى أخلاقية، إبداء مواقف من أنماط السلوك.
وعلى الرغم من التنوع فى طبيعة وهدف كل رحلة، فمنها الرحلات التى كانت بغرض الحج وأخرى بتكليف من الخليفة إلا أن الشيء الجامع بينها كان حرص كل رحالة على الوصف الدقيق للأماكن والشعوب كما فعل ابن بطوطة فى وصف رحلته للصحراء حين قال فى وصف الصحراء «وهذه الصحراء منيرة مشرقة، ينشرح الصدر فيها، وتطيب النفس، وهى آمنة من السراق، والبقر الوحشية بها كثيرة، يأتى القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنشاب» أو فى وصفه لتصرفات أهل الصحراء وأنماط سلوكهم «ورأيت أهل مسوفه يعصرون الكرش منها ويشربون الماء الذى فيه» مع اختلاف الرحالة فى أسباب رحلاتهم وأهدافها من ابن فضلان إلى ابن بطوطة وابن الجبير والإدريسى وغيرهم، فمنهم من كانت رحلاته رسمية بتكليف من الخليفة ومنهم من كانت رحلاته بغرض الحج، ولكن حرص الرحالة على وصف الأماكن التى زاروها وثقافات الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم.
فالرحالة ابن بطوطة ألقى الضوء على الأماكن التى زارها، ففى وصف زيارته إلى مصر قال إنها أم البلاد، ذات الأقاليم العريضة، المتناهية بالحسن والنضارة، ووصف مسجد عمرو بن العاص بأنه مسجد شريف، كبير القدر، شهير الذكر، والطريق يعترضه من شرق إلى غرب، كما أن الزوايا كثيرة وكل زاوية معينة لطائفة من الفقراء، ولكل زاوية شيخ وحارس.
كما حرص ابن بطوطة على وصف أنماط السلوك متحدثا عن عوائدهم، إنهم يوم الجمعة يأخذ الخادم جميع سجاجيدهم فيذهب بها إلى المسجد هنالك، ويخرجون مجتمعين ومعهم شيخهم فيأتون المسجد ويصلى كل واحد على سجادته.
ويعد أدب الرحلات من أعظم قصص الأدب نظرا لقدرته على وصف دقيق لكل ما يراه الرحالة، سواء الرحلات الخاصة أو الرحلات الرسمية، لذا تتمتع كل رحلة بأسلوب مختلف فى الوصف، فرحلة ابن فضلان هى رحلة رسمية موكلة إليه من الخليفة المقتدر بالله إلى بلاد الصقالبة، بينما رحلت ابن جبير كانت رحلة خاصة بغرض العبادة والحج، فلكل منهما اختلافات كثيرة سواء فى العصر أو خط سير الرحلة أو الغرض من الرحلة.
تختلف رحلة ابن فضلان عن رحلة ابن جبير فى العصر، فابن جبير عاش فى القرن السادس الهجري، بينما عاش ابن فضلان فى القرن الرابع الهجرى، ويعد ابن فضلان مبعوثا رسميا من الخليفة المقتدر بالله، ولكن ابن جبير هو مبعوث رحلة خاصة تعبدية، وكانت رحلة ابن فضلان فى أوج الدولة الإسلامية بينما كانت رحلة ابن جبير فى ضعف الدولة الإسلامية وظهور الحملات الصليبية.
رحلة ابن فضلان كانت رحلة رسمية من الخليفة المقتدر بالله بالتوجه إلى بلاد الصقالبة، بينما رحلة ابن جبير كانت رحلة خاصة بغرض العبادة، وانطلقت رحلة ابن فضلان من بغداد إلى الصقالبة، بينما انطلقت رحلة الأخير من غرناطة فى الأندلس.
فى النهاية اختلفت الرحلتان فى الغرض والعصر ونقطة الانطلاق والعودة والصعوبات التى واجهتهما، واتفقتا فى أنهما كانا أصحاب علم وفهم، لذا لا بديل عن رحلة أى منهما فى أدب الرحلات.
وقد ظهرت العديد من الكتب التى تنقد أدب الرحلات وتتحدث عنه ومن أهمها كتاب الدكتور شوقى ضيف وهو أديب وعالم مصري، والرئيس السابق لمجمع اللغة العربية.
ويغوص الدكتور شوقى ضيف فى كتابه «الرحلات» فى أشهر الرحلات عند العرب، ومنها الجغرافية والبحرية والبرية فى الأمم والبلدان، بداية من مغامرات «سليمان» الذى قذف بنفسه فى المحيط الهندي، استمرارًا لمغامرات البحرين الأحمر والأسود، والمحيط الأطلسى، ولا يتوقف عند الرحلات فى البلدان العربية كمصر بل يتجاوز حدود العالم العربى إلى عالم البلغار وأوروبا الشرقية والهند والصين، ثم يتحدث عن رحلة «ابن جبير» فى العالم الإسلامي، وختامًا برحلة «ابن بطوطة».
وفى الفصل الأول من الكتاب والذى يحمل عنوان رحلات جغرافية، يشير ضيف إلى أن العرب أهتموا بوصف البلاد التى دخلوها، ووصف عالمهم، والعوالم المحيطة بهم، بداية من «المسالك والممالك لابن حوقل»، الذى طاف العالم الإسلامى ثم وضع كتابه فى رحلة جغرافية بديعة. ثم «أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم للمقدسى»، مصورًا أحوال العالم الإسلامى الجغرافية والعمرانية. مرورا بـ«نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق للإدريسى»، ويعد أعظم مصنفات العصور الوسطى فى الجغرافية، بعدما زود كتابه بواحد وسبعين مصورًا. وختاما بـ«آثار البلاد وأخبار العباد للقزوينى»، الذى يعتبر من أطرف الكتب الجغرافية عند العرب، حيث يجمع غرائب كثيرة عن العالم فى أوروبا وآسيا وإفريقيا.
ثم يتطرق المؤلف للحديث عن عجائب البحار، حيث كانت الرحلة فى البحر تُعد متعة حقيقية بداية من «رحلة التاجر سليمان»، الذى كان ينقل عروض الهند والصين إلى البلدان العربية عبر المحيط الهادي، فوصف هذا الطريق وما شاهده، وتعتبر أقدم رحلات العرب البحرية. مرورا بـ«عجائب الهند بره وبحره وجزائره لبزرك بن شهريار الناخداه»، وكان بحارًا يحترف ملاحقة السفن، ويروى حكايات عن بعض الملاحين الذين جابوا المحيطين الهندى والهادى، وما فيهما من عجائب الملاحة وغرائب العواصف. وبعد ذلك «رحلة الفتية المغررين»، وهم ثمانية فتية ركبوا البحر المظلم وظلوا فيه شهورًا ثم عادوا. وأخيرا «عرائس البحر»، وهى أساطير عند العرب تشبه الأساطير التى كانت معروفة عند اليونانيين القدماء.
بعد ذلك يتحدث الكتاب عن رحلات فى الأمم والبلدان ليشير توغل العرب فى الأقاليم المحيطة بهم، وتعرفوا على جغرافيتها وأحوالها، بداية من «أبو حامد الأندلسى فى شرق أوروبا»، الذى طاف إفريقيا وصقلية، وتوغل فى بلاد البلغار وسجل مشاهداته. ثم «أسامة بن منقذ بين الصليبيين»، الذى سجل قصصًا عن الحوادث التى عاش فيها بالشام ومصر، وكتب كثيرًا عن الصليبيين.
ليأتى الفصل الرابع متحدثًا عن وصف رحلة ابن جبير، قص ما شاهده فى طرقه إلى الحج وعودته منه، فتجد وصفا دقيقا للكعبة وكسوتها، ورحلته فى الأراضى المقدسة، ورحلته فى الديار المصرية والعراق والشام.
وختامًا يتحدث شوقى ضيف عن رحلة ابن جبيرو ورحلة «ابن بطوطة»، وهو أعظم رحالة عرفه العرب فى تاريخهم، فلم يترك بلدًا نزل به إلا وتحدث عنه وعن أهله وسلطانه وعلمائه، حيث كانت رحلاته معرضًا كبيرًا لحالة الأمم والأقاليم من كل الوجهات سواء السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، إذ وقف كثيرا عند رجال الدين وأمور الإسلام فى هذه البلدان.
وأخذ «ابن بطوطة» طريقه إلى مصر وعندما وصل الإسكندرية زار علماءها، ولم يكن يخطر فى باله التوغل فى بلاد الهند والصين، وعاد إلى الفسطاط، ثم تحرك إلى الحجاز ليؤدى فريضة الحج، ثم سافر إلى العراق، ودخل الكوفة وبغداد، وأقام بمكة، ثم ركب البحر إلى اليمن، وأبحر إلى شبه جزيرة القرم.
ويشير الكاتب إلى رحلات «ابن بطوطة» من الأناضول إلى بلاد المغول، بداية من بلدة «العلايا» على بحر الروم بالقرب من الشام، الذين اشتهروا بالكرم وإيواء الغريب، ثم خرج إلى السودان الغربى قاصدا مدينة سجلماسة فى الجنوب، متحدثا عن أهمية الملح عند السودانيين بأنهم يبتاعونه به مثلما يبتاع غيرهم بالذهب والفضة، إضافة إلى رحلته لبلاد المغول والهند والصين.
فى النهاية لابد وأن نعترف أن أدب الرحلات سيظل شاهدًا معرفيا وأخلاقيًا على عصور فى حياة البشرية يرصد فيها الرحالة عادات الشعوب وقيمها، ويحدد جغرافيتها ودروبها، فهو أحد فنون التأريخ التى تمكننا من التعرف على الآخر وتراثه وتاريخه، كما تمكننا من معرفة أصولنا، وتاريخنا.
رابط دائم: