رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بشهادة نخبة من شخصيات تركية وعالمية: معتقدات أردوغان متحجرة وحبيسة عقلية تجاوزها الزمن

عــاطف الغمــرى
أردوغان

فى قلب الأحداث التى تحيط الآن بالمنطقة، والتى تمسك فيها تركيا بخيوط لعبة، ليست متصلة بشعوب المنطقة، وبإرادتها واختيارها، يتردد على الذاكرة صدى الخطاب الذى ألقاه أردوغان فى أوبرا القاهرة فى سبتمبر 2011، معلنا «أن تركيا تقدم نفسها مركز الإلهام للشرق الأوسط». وكان أردوغان فى رحلة شملت مصر، وليبيا، وتونس، يصحبه فيها 6 من وزرائه، و200 من رجال الأعمال.

وترديدا لما نطق به أردوغان، خرج الألوف من الإخوان ـ بشكل منظم ـ إلى شوارع القاهرة يهتفون «أردوغان .. أنت بالنسبة لنا القائد الإسلامى العظيم للشرق الأوسط».. هذا المشهد استلفت نظر صحيفة التايمز التى نشرت مقالا يحمل نبرة سخرية عنوانه «استقبال لأردوغان فى القاهرة مثل نجوم الروك».

كان وصول الإخوان الى حكم مصر عام 2012 قد أنعش فى عقل أردوغان مشروعه لاستعادة الدولة العثمانية، لتشمل جميع دول المنطقة. ولأن الاستراتيجيات الدولية ليست مجرد حلقات منفصلة، بل تجمع بينها روابط المصالح، فإن المشروع التركى لم يكن مقطوع الصلة بإستراتيجية الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، الذى وضع منذ أغسطس 2010 خطة تغيير الأنظمة وتمكين الإخوان من الحكم فى دول المنطقة. وهى الخطة التى كشفت عنها فى مايو 2011 مجلة نيويوركر ـ المعروفة بدقة اطلاعها ـ وتم ذلك عبر اتصالات لوكالة المخابرات المركزية مع ممثل الإخوان فى أنقره أحمد عبدالعاطي، والذى كان على اتصال وتنسيق يومى مع أردوغان.

المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية التركى سونر كاجبتاي، ومدير برنامج البحوث التركية بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأردني، ذكر فى دراسته بعنوان «أردوغان على النيل»، وكذلك فى كتابه «أردوغان السلطان الجديد»، ان وصول الإخوان الى حكم مصر، حقق لأردوغان نفوذا هائلا فى مصر، واطلق أمام ناظريه مشروعه لاستعادة فكرة الدولة العثمانية فى إطارها القديم ولإعادة تشكيل الشرق الأوسط، انطلاقا من اسطنبول.

لكن المشكلة العصيبة فى مشروع أردوغان، انه يدين بالولاء عقلا وفكرا، لنفس التراث الدموى للعثمانية، وليس لفكر حضارى عصرى أو حتى توافقى مع شعوب الدول الطامع فيها، وهو كما وصفه كاجيتاي، لايريد ان يكون فقط رئيسا لبلده تركيا، بل سلطانا يعيد لعبة النفوذ السياسى للعثمانية التى سقطت، والتى تجاوزها الزمن.

دولة بلا هوية وطنية حضارية

احتلت أسباب سقوط الدولة العثمانية مجال الدراسات التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، لعلماء متخصصين. من أبرزهم الكاتب التركى ياجبنر أوزيول أستاذ التاريخ والاقتصاد بجامعة برلين، ويقول: إن سقوط الدولة العثمانية يرجع الى أسباب داخلية، تتصل بالطريقة التى أنشئت بها الدولة العثمانية. حيث اعتادت الاستيلاء على ثروات أبناء الدولة المحتلة، قبل ان تقوى نفسها ذاتيا.

كما يرجع السقوط إلى أسباب خارجية، أهمها صعود الصحوة الوطنية للشعوب الخاضعة لها.

وبالنسبة للأسباب الداخلية فإن العثمانية هى فى أصلها مزيج من ديانات، وعقائد، وأعراق، وإذا كانت القوة العسكرية هى سلاحها فى إخضاع دول أخرى، فكان لابد فى يوم ما ان تدب فى هذا الخليط عناصر التفتت. خاصة اذا علمنا عن انعدام وجود رابطة حضارية عثمانية، تجمع شتات هذه المكونات للدولة.

أما عن الأسباب الخارجية، فلم يكن هناك تجانس أو تمازج بين الأتراك وبين شعوب البلاد التى احتلوها، بل كان هناك نفور منهم، بوصفهم غزاة، محتلين، جاءوا لنهب ثروات هذه البلاد، وفى الحالتين الداخلية والخارجية فكان أقوى عنصر وراء هذا السقوط، هو ضعف السمات الثقافية، والحضارية للعثمانية.

الكاتب الأمريكى فرانكلين وانج يضيف إلى هذه الأسباب، انعدام التناسق بين مكونات الخليط التركي، وهو ما حال دون وجود هوية وطنية حقيقية بل أن بعض سلاطينهم كانوا من ذوى الدماء المختلطة. نفس الظواهر التى تفتقدها الهوية العثمانية، تعمق فى دراستها عدد كبير من المؤرخين، أتراكا، وعالميين، والذين نشرت دراساتهم فى مراكز بحوث فى أمريكا وأوروبا، منهم رمضان أوتاسي، وبوراك إيبيسي، وعلوى سياهرى، وأرون إيريل، وجون روبنسون، ورون سكوملر، وغيرهم. وجميعهم اتفقوا على أن العثمانية هى حالة عقلية نفسية خارج العصر. وإن فقدانها للهوية التى تمتد الى تاريخ حضاري، يحتم سقوطها وبلا رجعة ـ على حد قولهم.

على العكس من ذلك، كانت الهوية الوطنية، والثقافية، الضاربة فى عمق الزمن لشعوب تحت السيطرة العثمانية، تمثل القوة المضادة لها. حيث نتج عن سيطرة العنصر التركى على شعوب هذه البلاد، زرع بذور التمرد والثورة عليهم. وصعود المشاعر الوطنية، والنزعة للاستقلال.

ثم يجمع هؤلاء العلماء على القول إن الدول صاحبة التاريخ الممتد على طول آلاف السنين، التى أبدع أبناؤها صنع قواعد وأركان حضارتهم، هى التى تتشكل لها هوية وطنية، غرست جذورها فى أرضها، وعكست وجودها فى تاريخ العالم. ثم يشبهون هذه الهوية الوطنية بالشجرة السامقة التى تظلل فروعها بلادها وشعوبها، سواء داخل أراضيهم أو خارجها، حتى ولو بعد مرور مئات أو آلاف السنين.

ثم يسألون: هل لدى تركيا العثمانية شىء من هذا؟.. وهل تنبهت إلى أن العصر اختلف، وانها بلد يعيش خارج الزمن، وهى تسعى اليوم لاستعادة ماض قد مات ودفن؟.

الحالة النفسية العثمانية

تتوقف الدراسات أمام حالة أردوغان. ويقول كتابها المشار إليهم إن سقوط الدولة العثمانية، ترك جرحا غائرا لدى الأتراك. وأن النخبة الجديدة منهم فشلت فى إيجاد بيئة ثقافية صحية نفسيا للمجتمع التركي، بل إنها خلقت أجواء معاكسة لذلك.

فى هذه البيئة نشأ أردوغان، لتمضى مسيرته على عكس المنطق والعقل السليم. فمثلا حرصت سياسات الحكومات من بعد الثمانينيات على أن تعيد إلى الذاكرة زمن الدولة العثمانية.

اتصالا بذلك، كانت دراسة البروفيسور إيلين جورينر بعنوان «أسلوب الشخصية والقيادة لأردوغان»، ويقول: إن معتقدات أردوغان جامدة ومتحجرة. وإن اختياراته ليست مرنة. وهذا يجعله لا ينظر إلا إلى ما يريد لعينيه أن تراه،فى عجز عن رؤية الحقائق المجردة. عندئذ يبحر زورقه إلى مياه دولية متقلبة، يتطلب الإبحار بها وجود البصيرة، وليس مجرد النظر فقط. وهذا يجعله يحرص على التعامل مع من يشاركونه نفس رؤيته للأمور. وهو ما جمع بينه وبين الإخوان المسلمين كمثال.

ثم تأتى جملة لافتة على ألسنة المشاركين فى هذه الدراسات تقول: إذا كان هناك من يسعى لزرع عدم الاستقرار فى تركيا، وفى المنطقة، فليس هناك من هو أفضل لهم من أردوغان.

ثم يقول البروفيسور جورينر: إن أردوغان نشأ فى نفس المناخ الذى تشكل فيه تفكير النخبة الجديدة فى تركيا وإن فكرة استعادة الدولة العثمانية التى شغلت أتراكا آخرين، لم تكن هى فقط التى تسلطت على تفكير أردوغان، بل إن تفكيره تجاوز حدود الفكرة ذاتها إلى الشكليات، كأنها هى التى تجسد أمامه الصورة القديمة للعثمانية، مثل بناء قصره المكون من ألف غرفة.

ويختتم جورينر دراسته بهذه الكلمات: ربما يكون الوقت قد فات قبل أن تتبين الأمة التركية، أن أردوغان كان يلعب بالنار، وأن حلمه قد تحول إلى كابوس.

المكونات النفسية للعثمانية

وتظهر الدراسات ـ إمارات ميراث أسلافه الذين أقاموا دولتهم العثمانية على الإرهاب، والعنف الدموي، والتعدى على شعوب أخرى. وهو الميراث الذى يعمل أردوغان على احيائه بسلوكه المعوج. ويركز علماء التاريخ على نموذج صارخ فى انعدام إنسانيته، من التراث العثمانى ممثلا فى مذابح الأرمن. ويقولون إن العامل النفسى المسيطر على المنغمسين فى حلم الدولة العثمانية، كان الداعم الرئيسى للتخطيط والتنفيذ للإبادة الجماعية لمليون ونصف المليون مواطن أرمني.

ويقول المؤرخون إن حكام تركيا استخدموا أسوأ خبرات الأطباء النفسانيين فى قهر ضحاياهم من الأرمن. وتذكر مجموعة المؤرخين الأتراك والأجانب ـ السابق الاستشهاد بآرائهم ـ أن الطبيبين النفسانيين بهاء الدين شاكر، ونظيم بك، وهما من قادة جماعة «الاتحاد والترقي» قد استخدما خبرتهما فى الطب النفسي، لتنفيذ عمليات القتل البطئ، بدس السم للضحايا، وأنهما طبقا هذا الأسلوب فى بلاد أخرى بالإضافة إلى أرمينيا.

اعترافات الأتراك: نفذنا مذابح لإبادة الأرمن

كان الدكتور حيدر كمال رئيس المكتب الطبى للجيش الثالث التركى قد كتب مذكرة فى يناير 1916، قال فيها انهم تعمدوا تعريض الكثيرين للإصابة بالتيفويد. وكتب المؤرخ جيريمى هيو بارون أن أطباء أتراكا تواطأوا فى ارتكاب مذابح، وأنهم سمموا مواليد، وقتلوا أطفالا.

لم تكن جرائم تركيا تكتفى بالأرمن داخل بلادهم، بل انها نظمت فى عام 1915، حملات اعتقال للأرمن المقيمين فى اسطنبول وأنقرة، وكانوا نخبة متميزة من المثقفين، والشخصيات العامة، وقامت بقتلهم عمداً.

ولم يقتصر الأمر على القتل والمذابح الجماعية، بل وصل إلى الاستيلاء على الثروات، بمقتضى قانون أصدره البرلمان التركى عام 1915، يبيح الإبعاد إلى خارج البلاد، ومصادرة ثروات أصحابها وممتلكاتهم بما فيها الماشية، والمنازل لمصلحة السلطات العثمانية. وتم أثناء ملاحقة المبعدين إلى الخارج، ذبح 800 ألف شخص أرمني، ممن كانوا يقيمون فى تركيا.

كان العالم كله يعرف عن مذبحة الإبادة الجماعية للأرمن، لكن تركيا الملطخة يداها بدماء الأبرياء، ظلت تنكر هذه المذابح، إلى أن فوجئت فى عام 2019 بدعوات عالمية من 32 حكومة وبرلمانا، بضرورة اعتراف تركيا بارتكابها جريمة إبادة الجنس.

كما دعا بابا روما جميع رؤساء دول العالم، والمنظمات الدولية، لإلزام تركيا بالإعتراف بمذابح الأرمن.

فى هذه الأجواء راحت تنتشر فى عدد من دول العالم وثائق الإبادة. وحين اقتربت ذكرى مرور مائة عام على هذه المذابح، وكانت مناسبة سوف يتذكرها العالم، بمن فيهم حلفاء تركيا فى حلف الأطلنطي، عندئذ أراد أردوغان الالتفاف على هذه المناسبة، وسارع فى 23 أبريل 2014 بعث رسالة عزاء لأبناء أرمينيا فى أنحاء العالم. مجرد عزاء، يتهرب به من الاعتراف بجريمة إنسانية مثبتة بالشهود والوثائق من داخل تركيا وخارجها. جريمة ارتكبها أجداده العثمانيون الذين يسير على دربهم، ولا يكف عن التغنى بما تركوه له من تراث ملعون.

ولا يخجل أردوغان فى كل مناسبة من التهليل اعجابا بميراث تلك الحالة العثمانية، فهو سليل قوم يسجل لهم التاريخ، نفوسهم الطامعة فيما هو فى أيدى الآخرين، لأنهم اعتادوا تاريخيا أن يصنعوا حاضرهم من سلب الآخرين حقوقهم.

وإذا كان أردوغان قد قدم بلده تركيا ـ فى خطابه بالقاهرة عام 2011 ـ بمركز الإلهام للشرق الأوسط، مستلهما مشروعه من ماض مات ودفن، وهو يبنى قصور أحلامه على أنقاض متهدمة، فهو يستلهم القوة العسكرية التى يحشدها، بنفس تكوين جيش الدولة العثمانية من الانكشارية، ولم يكونوا أتراكا بل لمام من شعوب أخرى، ويعيد نفس المفهوم بتكوين جماعات مسلحة مقاتلة من جماعات إرهابية، ومرتزقة من دول أخرى، تتوافق شهوتها للقتل وسفك الدماء، مع نفس ميراث العثمانية.. ميراث أجداد أردوغان.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق