إذا كنت ممن يفضلون قراءة «رواية» قصيرة مكثفة، تترك فى نفسك أثرا عميقا، حيث تتجول بك فى عالم تتخطاه عيناك يوميا، ولا تلتفت إليه أبدا بعقلك، فلتقرأ «نداهة القاهرة»، لمؤلفها بيير جازيو والصادرة عن دار المرايا بترجمة آريج جمال ، فهى نوفيلا قصيرة وهو نوع أدبى مهدور حقه الفنى بين القصص القصيرة، والروايات الطويلة، التى يفضلها القراء، والنقاد، ومانحو الجوائز، لكثرة شخوصها وتشعب أحداثها، وقدرتها على وصف أحقاب تاريخية أطول.
الرواية التى بين أيدينا، تقع فى 50 صفحة من القطع المتوسط ، تكثف لنا عالم كبير جدا ممتد بحجم المجتمع كله، حيث يتعامل معه كل الناس، لكن يتجاوزه الجميع لأنه غير ذى أهمية لهم، رغم خطورته إذا أجاد أفراده التجمع، والتحرك بشكل منظم، وهو عالم «أطفال الشوارع»، تمكن المؤلف الفرنسى الجنسية، من التقاط إشارة معاناة طفل يبيت بالشارع هربا من عذاب بيته بسبب أمه التى تتعامل معه بقسوة شديدة، وزوج أمه الذى «هبط» عليهم بالبيت ليقيم معهم، ويعمل على طرد الطفل خارجه، بأى طريقة، فيجد الطفل نفسه بالشارع فى مواجهة تحديات كبرى تدفعه للنضج قبل آوانه.
بيير جازيو، أستاذ اللغة الفرنسية بمدرسة الليسيه بالقاهرة، كتب روايته باللغة الفرنسية، وهو يعيش بالقاهرة منذ ثلاثين عاما. نجح جازيو أن يجعل القاريء دوما فى حالة إرهاق وقلق على الطفل الصغير، «هيثم» ،الذى خرج من جحيم بيته الفقير، ليبحث عن طريقة ينتحر بها ليتخلص من عذابات عالمه المظلم، فيجلس القاريء بجوار الطفل على حافة نهر النيل، وهو يتذكر ويتأمل الضرب الذى كان يتلقاه من أحد ضباط الشرطة، ومن أمه، وزوجها. ويسترجع مشهد جثمان صديقه »حسن« الطافى أسفل كوبرى قصر النيل، ثم صورته هو نفسه وهو معلق بسقف الغرفة الضيقة من ساقيه، ليجلده زوج أمه، لأنه يكرر السؤال عن والده الذى توفي، وهو يصرخ فى وجهه المتعرق المفزوع: «أبوك مات».
لم تكن رحلة طفل صغير قرر ترك بيته، والخروج للشارع سهلة أبدا، فلا هو وجد من يحنو عليه ويمنحه الطعام، كما يمنحه البعض للقطط والكلاب، ولا وجد حتى من يسأله عن سبب تجوله وحده، وإنما كانت رحلته متبوعة باستغلال جسده النحيل فى أعمال جنسية غير سوية، يمارسها بعض المرضى الذين يجيدون التقاط ضحاياهم من الشوارع، ثم يعاود الذهاب لأمه مرة أخرى ليجدها كلوح الثلج، غير عابئة بحضوره، أو غيابه، فيخرج مسرعا للشارع مرة أخري. كما يصف جازيو «هو وحيد فى عالم مرعب، يبدو فيه الأخرون راضين، بل وسعداء. فى هذا العالم كى يبقى المرء حرا، عليه أن يكون وحيدا، وعندما يسأله الناس مع من يعيش؟ يجيب هيثم: أعيش مع نفسي».
تراود الطفل مرة أخرى فكرة الأنتحار، والخلاص من حياته، يفكر فى استئجار مركبا ليدخل به فى النيل لمكان آمن، حتى يقابل «النداهة» التى طالما سمع أنها سيدة طيبة تبحث فقط عن عريس لها، تمنى دائما أن يكون هو، وهذا ما سيضمن له ميتة مريحة، ليست كتلك الميتات التى سمع عنها، فأرتعد جسده رعبا، وفى طريقه للنيل يطوف بنا المؤلف على نماذج أخرى متنوعة من هذا «الهيثم» منثورون بالشوارع يبحثون عن موضع لحياتهم البائسة، مثل رانيا، بائعة الورد الصغيرة، وتامر صبى الميكانيكى الذى احترف السرقة فى المواصلات العامة، لتحسين دخله.
قد يكون الشارع فعليا أكثر رحمة من بعض بيوت الأهل على هؤلاء الأطفال، لكنه فى النهاية عالم كبير مفتوح على كثير من الناس البشعة، وقليل جدا من الطيبين.
رابط دائم: