بعض الأخبار تأتى فى وقتها المثالى، كما فى حالة قرار «معهد مينوبوليس للفنون» الأمريكى بضم لوحة «رقم 4» للتشكيلى السودانى صلاح المر لتصبح ضمن المجموعة الدائمة لمتحفه. وبخلاف أنه إنجاز جديد لفنان أضاف الكثير إلى مجال الإبداع البصرى بالمنطقة، فإن اختيار تلك اللوحة تحديدا له دلالة كبيرة بالنسبة للجدل المتجدد دوليا حول قضايا «العنصرية».
فلوحة المر المختارة تتناول عهد «الفصل العنصرى» فى جنوب إفريقيا، من خلال توثيق دور «السجن رقم 4»، والذى يضم سجن انفرادى غير آدمى كان يتم إيداع ذوى البشرة السمراء فيه. فمساحة الزنزانة كانت لا تزيد على متر * متر، ولا تتيح للسجين إلا الوقوف دون الجلوس أو حتى التمدد بغرض النوم.
يحكى المر لـ «الأهرام» عن تناوله دلالة «سجن رقم 4» قائلا: «أنتمى بقوة إلى كل ما هو إفريقى وقمت بجولات متكررة لإعادة الاكتشاف الثقافى والاجتماعى بعدد من الدول الأفريقية مثل كينيا وأوغندا وتنزانيا ومصر. أسعى دوما إلى إعادة اكتشاف ثقافتنا بكل ما فيها من عناصر خير وشر»
وإحدى المحطات الرئيسية لرحلات المر الإفريقية كانت فى جنوب إفريقيا، حيث قام بزيارة عدد من المتاحف والمزارات التى قامت بذات المواقع الشاهدة قديما على ممارسات «الفصل العنصرى» ومن بين هذه المزارات كان السجن «رقم 4».
يقول المر عن الزيارة واللوحة: «أردت أن أوثق ما كان بعد عهد الفصل العنصرى، فكان ثلاثة مشاهد من داخل الزنزانة سيئة السمعة، وتظهر فيها فتاة فى شخصية حبيبة تمسك بوردة لمواساة ودعم أحد مواطنى جنوب إفريقيا، أردت أن تكون لوحتى اعتذارا عن كل ما كان».
ولكن «رقم 4» والتى تقدر أبعادها بـ «250 *200» ليست اللوحة الأولى للمر، التى يتم إدراجها ضمن المجموعة الدائمة بأحد المواقع الفنية حول العالم، فمن قبل تم إدراج لوحة «حامل الخرشوف» ضمن مجموعة متحف «مكال» للفن الإفريقى المعاصر بالمغرب. وهذه اللوحة تحديدا ضمن ما يطلق عليه المر «مجموعة أستوديو كمال».
وتضم هذه المجموعة عددا من اللوحات المستلهمة من مجموعة صور «أستوديو كمال» الذى أسسه والد الفنان السودانى منتصف الستينيات للتجاوب مع تحول جوهرى شهده المجتمع السودانى ولإرضاء شغفه الجارف نحو التصوير.
يحكى المر، وهو من مواليد الخرطوم فى 1966، أنه فى عام 1964، بدأت السودان فى تطبيق نظام الهوية الشخصية، وزادت الحاجة بشكل جارف لالتقاط صور شخصية. ويقول: «قام أبى وهو طالب بكلية الهندسة وقتها ومحب لهواية التصوير بتحويل جانب من محل الحلاقة الخاص بجدى إلى أستوديو تصوير لالتقاط الصور الخاصة بالهوية للراغبين».
ويستكمل المر: «وتطورت التجربة بالتقاط صور تذكارية للمترددين على الأستوديو وأسرهم، ما خلف أرشيفا خاصا من الصور التى تم تحميضها والنيجاتيف الأصلى للصور. واكتشفت هذا الكنز الثمين خلال دراستى بالمرحلة الإعدادية لتفتح أمامى عالما خاصا».
ويوضح المر أن أرشيف «أستوديو كمال» كان مصدر إلهام بصرى رئيسى فى مسيرته الفنية، وأثرت فى لوحاته لسنوات لاحقة، حيث تظهر مفردات الأستوديو من «أزهار للزينة» و«بلاط أرضيات» بشكل واضح فى لوحات متعددة للفنان التشكيلى الذى درس بكلية الفنون الجميلة بجامعة الخرطوم.
تأثر المر بتجربة «أستوديو كمال» وأرشيفه تأثرا شديدا، حتى أنه قام بإعادة تشييد محيط الأستوديو بشكل رمزى أكثر من مرة خلال فعاليات فنية، ومنها ما كان خلال مشاركة له بمتحف الشارقة. وكانت تلك التجربة بداية رحلة موازية فى حياته الفنية، فحولته إلى أحد هواة «الاقتناء» فى إفريقيا، حيث جاب عددا من الدول العربية والأجنبية لدعم أرشيف الصور الذى بدأ فى تكوينه، والمؤلف من الصور الملتقطة فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وقبل اختراع «الكاميرا الدجيتال».
يجد المر فى هذه الصور، أثر التاريخ والثقافة الإنسانية ، بالإضافة إلى مصدر لتجديد خبراته البصرية وإلهامه بشكل دائم. وقد نجح فى جمع أكثر من 4 آلاف صورة، ويسعى لجمع أضعاف هذا الرقم ، لتدعيم أرشيفه الخاص وإرضاء رغبته فى اقتناء الماضى «الفوتوجرافى» للبشر سواء فى مجتمعات إفريقيا أو غيرها.
من صور «استديو كمال» والتجسيد التشكيلى للإرث الفوتوجرافى
رابط دائم: