إذا كان التمرد علي الإمبراطورية البريطانية قد شكل الولايات المتحدة، فإن المقاومة العالمية ضد هذه الإمبراطورية استمرت في تشكيل التاريخ الأمريكي حتي بعد نهاية الحرب الثورية الأمريكية عام 1783.
ففي تقرير لمجلة «تايم» الأمريكية، يظهر كيف سار تطور حركة الحقوق المدنية الأمريكية يدا بيد مع حركات التحرر من الاستعمار خارج الأراضي الأمريكية. ويشرح التقرير أن حركة الحقوق المدنية كانت جزءا من نضال أوسع ضد العنصرية في عصر التحرر من الاستعمار. وهو العصر الذي ربط بين الثوريين عبر قارتي آسيا وإفريقيا وحتي أبعد من ذلك، حيث قام بتعبئة المجتمعات الآسيوية والإفريقية المتناثرة في الشتات العالمي بسبب الاستعمار.
والولايات المتحدة كانت أبرز الساحات. فالبريطانيون نقلوا العبيد من إفريقيا إلي الأمريكتين بدءا من القرن الـ17. الهنود أيضا يرجع وجودهم في الولايات المتحدة إلي البدايات، فالتاريخ يذكر مار إمونز الخادمة الهندية لآرون بر ثالث نائب رئيس في التاريخ الأمريكي، التي أنجب منها اثنين من أبنائه سرا. وقد توالي تدفق اللاجئين الهنود الهاربين من الاستعمار، علي الولايات المتحدة في القرن الـ19. وهكذا تداخل النضال من أجل الحرية خارج أمريكا بنضال الملونين داخلها، وهو ما أثر بشكل كبير علي اللحظة السياسية الأمريكية الراهنة. فباراك أوباما وكامالا هاريس، يعدان اثنين من أهم السياسيين في الحزب الديمقراطي، وهما نتاج أسر تشكلت ظروفها في ظل النضال العالمي ضد الاستعمار وضد العنصرية خلال الستينيات من القرن الماضي. الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، قصته تعود لكينيا المستعمرة. فجده كان يخدم هناك في وحدة للجيش البريطاني، وقد تعرض للاعتقال في الخمسينيات من القرن الماضي لمدة 6أشهر في معسكرات وحشية أنشأها البريطانيون لسحق التمرد ضد الاستعمار في كينيا. وتم اعتقال نجله أيضا المعروف بباراك الأكبر، لتورطه في مناهضة الاستعمار وهو لايزال بسن العشرين. لكنه ما لبث أن انتقل للولايات المتحدة للالتحاق بالجامعة عام 1959 لدراسة الاقتصاد، تزامنا مع استقلال كينيا.
كانت مادة الاقتصاد دائما، خاصة اقتصاديات التنمية، مجال الدراسة الأول آنذاك للقادة من العالم الثالث الذي كان يري النور. وقد بذلوا جهودا لإعادة تشكيل النظام في فترة ما بعد الاستعمار، وإطلاق العنان لحركة التقدم التي خنقها الاستعمار في دولهم، وذلك بالاستعانة بقواهم التقنية.
وفي مذكراته «أحلام من أبي»، يروي أوباما رحلته إلي كينيا عام 1988، حيث أدرك كيف أثر الاستعمار علي حياة جده وأبيه بعمق، بما في ذلك إيمان أبيه بالتكنوقراطية الغربية. واستنتج أوباما في كتابه أن التقدم يعتمد علي الإيمان بالآخرين. وقد رأي في عمله كناشط مجتمعي في مدينة شيكاغو الأمريكية استمرارا لكفاح أجداده من أجل الحرية.
ويكشف أوباما من خلال رحلته إلي كينيا عن الانتشار الواسع للهنود هناك وفي العديد من المستعمرات الإفريقية، الذين كان يجلبهم البريطانيون للعمل. وهو ما ساعد علي التضامن المشترك عالميا في الكفاح من أجل الحرية.
وهنا تتقاطع خبرة أوباما الإفريقية مع قصة السيناتور كامالا هاريس، التي تخوض السباق علي منصب نائب الرئيس في الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم، وتمثل جزءا من رواية عالمية للإمبراطورية البريطانية السابقة. فقد بعثت الحكومة الهندية جدها لوالدتها بي في جوبالان إلي زامبيا (روديسيا الشمالية حينذاك) لمساعدة حكومتها الوليدة بعد الاستقلال علي التعامل مع أزمة تدفق اللاجئين الهنود القادمين من زيمبابوي (روديسيا الجنوبية)، التي كان يسيطر عليها المستوطنون البيض، إثر إعلانها الاستقلال بشكل أحادي.
ومثل جد أوباما، فقد بدأ جوبالان حياته بالعمل في حكومة الاستعمار البريطانية وشارك في نضال التحرر الهندي، بحسب رواية هاريس. أما والدها دونالد هاريس فقد كان ميلاده في مستعمرة بريطانية أيضا وهي جامايكا حيث كانت تعيش مجتمعات إفريقية وهندية معا. فبعد انتهاء العبودية في الثلاثينيات من القرن ال19، لجأ البريطانيون إلي نقل العمالة الهندية للخدمة في مزارعهم في جاميكا. وقبل حصولها علي الاستقلال عام 1962، كان دونالد هاريس قد وصل إلي الولايات المتحدة لعمل الدراسات العليا في جامعة بيركلي في الاقتصاد في مسعي لدعم حركة النمو في بلاده المستقلة حديثا. وهناك التقي بشيامالا جوبالان طالبة الدكتوراة (في الطب)، من خلال انخراطهما في حركة الحقوق المدنية بالجامعة. ثم جاءت ابنتهما كامالا لتخوض في طفولتها تجربة الحد من الفصل العنصري في المدارس الأمريكية.
أوباما وهاريس يجسدان جدل القوي التاريخية عالميا ومحاولة تغيير المجتمعات وتدرجها الهرمي. التاريخ العالمي ذاته جسد اللحظة التاريخية بإعلان هاريس مرشحة لمنصب نائب الرئيس. والأواصر التي نسجت لمكافحة الاستعمار تشكل الآن قيادة الحزب الديمقراطي. لابد من الاعتراف بهذه الحقيقة لدحض الأكاذيب الخبيثة المشككة في أمريكية أوباما وهاريس. ومهما يتجه الحزب الديمقراطي يسارا، فإن ذلك يرجع لمدي الارتباط بين الكفاح من أجل المساواة في الولايات المتحدة وحركات الكفاح العالمي. مثلما كانت قوي الامبريالية والعبودية واللامساواة الرأسمالية عالمية أيضا.
رابط دائم: