منذ نصوص وديع سعادة الشعرية الأولى حتى آخر ما كتب تتبدى واضحةً أزمة الزمن فى شعره، حيث يبرز إحساس ضاغط لدى الذات بأنّها ليست فى الزمن المناسب أو أنَّ الزمن الذى تعيش فيه ليس زمنها، ثمة حالة من الاغتراب الزمنى لدى سعادة تبدو لازمة عن اغترابه المكانى. لدى وديع سعادة زمنه الخاص، زمن نفسى يطغى على شعوره بالزمن الكرنولوجى، زمن ذاتى محض يتشكَّل بأثر ضياع الذات وشتاتها المستمر واغترابها الوجودى فى الزمكان الموضوعى.
من الديوان الأول لسعادة، «ليس للمساء إخوة»، تبزغ إشكالية الزمن فى ثنايا الإحساس بالاغتراب فى هذا العالم: «اِعرفْ أنّك لن تجعل من الشمس حبيبةً/ وإنْ كنتَ فى رداءٍ كثيرِ الثقوب/ وأنّك/ حين تَدلفُ فوق ساقية الروح ببطء/ ستكون الماءَ الضائع/ وحين ترصف أنفاسَك فى الفضاء قضبانًا كثيرة الذكريات./ أنت/ ولو كانت لك نجمةٌ صغيرة/ ولو فتحَ الليلُ أحيانًا حياتَهُ/ لأعواد ثقابك/ ستأخذ غيرَ الضوء طريقًا/ وتطلُّ فى وقت غير مناسب على نافذة العالم». من البداية، كما فى هذه القصيدة/ الديوان، ليس للمساء إخوة، الذى يجيء على هيئة مقاطع متدفقة، ويرجع تاريخه كما دون سعادة إلى العام 1968، أى حينما كان سعادة بالكاد شابًا يافعًا لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، يتبدى إحساس الذات المضطرب إزاء العالم وشعورها اللامنتمى نحوه وحالة اللاتوافق معه.
يساكن الشاعر وعى مبكر منذ حداثته بوهمية التصوُّرات الرومانسية فى علاقته بالعالم: «اِعرفْ أنّك لن تجعل من الشمس حبيبةً»، فى استشعار بقسوة العالم الذى تُفرض على الشاعر مواجهته، وبمثل الوعى بمأزومية العلاقة مع العالم ثمة وعى آخر بعسر توافق الذات مع نفسها: «حين تَدلفُ فوق ساقية الروح ببطء ستكون الماءَ الضائع» بما يعكس شعورًا نفسيًّا بالضياع وبالتبدد سواء فى العالم الخارجى أو فى الداخل النفسى. وتكشف كلمات مثل «تدلف- ببطء» عن الاستراتيجية الوجودية والتعاطى النفسى فى السعى لتحقيق الذات نفسها بتوأدة وتمهُّل لا يجديان، ولا يفضيان سوى الإخفاق وعدم بلوغ الذات مراميها، كما يسفر عنصرا «الساقية» فى تشبيه الروح و«الماء» فى تشبيه الذات أو بالأحرى حركتها عن الخيال المائى كمنبع أساسى ورافد رئيسى لصور وديع سعادة، فالساقية رمز للحركية الدائرية وتجدد دورة الحياة، أما الماء الموسوم بالضياع، هنا، تمثيلاً للذات، كتشبيه يعكس شعورًا مُحبَطًا وخيبة أمل وانتكاسة رجاء فى إمكانية تصالح الذات مع نفسها أو مع عالمها. كما تكشف صورة مثل «وحين ترصف أنفاسَك فى الفضاء قضبانًا كثيرة الذكريات» عن إحساس بالتفاف الشعور بالسجن حول الذات التى تتمثل أنفاسها قضبانًا بأثر تداعٍ كثيف للذكريات، وكأنَّ آثار الماضى وذكرياته هى سجن يكبِّل الذات ويسلبها حريتها.
فى شعر سعادة وصوره الأولى تتبدى قطيعة ما مع الضوء بأشكاله المتنوعة وتجلياته المختلفة، فلن يستطيع الشاعر أن يجعل الشمس، مصدر الضوء النهارى حبيبة له، وكذلك فى الأجواء الليلية سيأخذ الشاعر طريقًا غير الضوء حتى لو كان له نجمة صغيرة أو سمح الليل له بإشعال أعواد ثقابه «فى إشارة لضعف مصادر الضوء التى يُمكن أن يمتلكها الشاعر»، ما يعكس حسًا تشاؤميًّا باستبداد العتمة وبقتامة الوجود، فتكون النتيجة هو الإطلال فى وقت غير مناسب على نافذة العالم بما ترمز إليه النافذة من دلالات الانفتاح على الآخر والاطلاع على العالم الخارجى، فمن البداية يترسخ الشعور بعدم مناسبة الوقت لطموحات الذات التى تحس بأنّها جاءت فى الزمان الخطأ الذى لا يمكنها أن تتوافق معه أو تعيش فيه.
تستخلص الذات من تجربتها عبر الزمن حكمًا بالفشل بالتوافق مع عالمها، كما فى ديوان المياه المياه: «الشبكة/ تصفّى نفسَها من الملح/ ماذا ينفعُ أن أرمى محبَّتى على الماء/ أن اُعَرِّضَ ملائكتى للأحلام/ ليلى للملائكة/ أنْ أفتحَ إناءَ عشقى/ وأُفسد سهوى؟/ الزمنُ يشفى وجهَهُ/ ببطء/ ويمسحُ الشوقَ عن شواطئى». مع تفاقُم الشعور اليائس إزاء العالم تتصاعد نبرة تشاؤمية فى داخل الذات باستخسار بذل المحبة فى هذا العالم، فيتجلى أثر الزمن ودوره فى إثناء الذات عن شوقها وتعلقها بهذا العالم، بعد خبرتها السلبية فيه.
ويتجلى هنا أيضًا مرجعية الخيال المائى، وإن كان فى النص السابق ينتمى لخيال الماء العذب، فيبرز فى هذا النص الخيال المرتبط بالماء المالح، ماء البحار والمحيطات بوفرة من المفردات والعناصر المرتبطة به، فثمة تصوير للذات فى موقفها الانسحابى أو المقاطِع لهذا العالم وتخلصها من محبتها له كالشبكة بتخلصها من الملح العالق بها.
وتعتمد الصياغة الشعرية بلاغة التساؤل المشحون بالصور تعبيرًا عن فقدانها الرجاء فى العالم: «ماذا ينفعُ أن أرمى محبَّتى على الماء» فيبدو التساؤل «ماذا ينفع» مستلاً عبر لاوعى الشاعر من نسيج لغة إنجيلية، كما فى تساؤل المسيح الشهير: «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟» لكن تبدو بنية التساؤل، هنا، مركبة، كدفقات متتابعة، فالتساؤل محسوم النتيجة، فالذات لا تريد أن تعرِّض ملائكتها «أى قواها وطاقاتها النقية البريئة» للأحلام، أى التطلُّع لأمانى وأهداف تنشدها من هذا العالم كيلا يُصدم حسها النقى، ولا تريد كذلك أن تُعرِّض ليلها «أى أحزانها وهمومها» لملائكتها حتى لا تفسد براءتها، وكما يتبدى، هنا، فثمة تدوير للمعانى عبر العناصر كما فى تكرار «الملائكة»، فالذات تنأى بنفسها عن العشق لأنّها لا ترغب فى إفساد سهوها عن هذا العالم الموجع، غير المواتى لها، فالزمن المتباطئ، وفقًا لتمثل الذات النفسى له، بأثر شعورها بجمود الحياة، يمسح الشوق، أى الشغف بالحياة والتطّلع إليها عن شواطئ الذات، وتؤكِّد صورة مثل «شواطئى» مجددًا هيمنة الخيال المائى فى تمثُّل الذات تموضعها وتمركزها فى هذا العالم بالشواطئ التى ترمز إلى الانفتاح على العالم الوسيع الذى ما يلفث الزمن أن ينزع الشوق إليه ويمحو الرغبة فيه.
فى خطابات وديع سعادة الشعرية تستبد نزعة تشاؤمية بالذات فى تصوراتها حول قادم الزمن، كما فى ليس للمساء إخوة: «أىُّ زمن سيأتي/ بقميص أبيض؟/ أيّ درب ستأتي/ ونلعب مع الأطفال؟/ أيّ خروف/ نطعمه أيدينا؟/ أيّ حلم/ وكلّنا على قارعة الطريق/ نلملم انهيار الوجوه». تعمل بلاغة التساؤل على تأكيد الاستبعاد، ونفى الرجاء فى المستقبل، فالذات تستبعد أن يأتى زمن بقميص أبيض، أى زمن نقى، فى إحساس طاغٍ بفساد العالم، كما تستبعد أن يأتى درب يجمعها بالأطفال واللعب معهم، بما يؤكِّد الشعور بغياب البراءة عن هذا العالم، بمثل ما يؤكِّد أزمة الذات كما يتبدى فى شعر سعادة عمومًا لفقدانها الزمن الطفولى، عهد البكارة والفطرة السليمة النقية، وهو ما ينتج عنه حالة نكوص وارتداد ومحاولة الانسحاب من الزمن الآنى لاغتراب الذات فيه وعدم استطاعتها التكيُّف معه، وكذا استبعاد احتمالية مجيء خروف لإطعامه بما يحمله الخروف من رمزية الوداعة وأيضًا الطهر إذ يكون فى الديانات الإبراهيمية رمزًا للكفارة وقربانًا حيوانيًّا، ما ينتج عن ذلك نفى إمكانية الحلم لانشغال الناس على قارعة الطريق بمحاولة تضميد جراحهم النفسية، كما تعكس وضعية الناس على قارعة الطريق، حالة الشتات الوجودى للجماعة وانفراط عقدها.
رابط دائم: