عندما كنت فى الصف الأول الثانوى كان لى ابن خالة بالسنة النهائية بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وكنا ننظر له بإكبار لأنه كان أول من التحق بالتعليم الجامعى من عائلة أبى وأمى على السواء، وفى واحدة من زياراته المتكررة لبيتنا، لفت نظره وجود عدد من سلسلة « المسرح العالمي» على أحد رفوف مكتبتى الصغيرة، فسألنى بدهشة عن ذلك، وراح يمتحننى فيما قرأته، وعندما ذكرت اسم برنارد شو ضمن من قرأت لهم، أخبرنى أنهم يدرسون مسرحه ونقد هذا المسرح، فسألته هل الدكتور على الراعى هو من يدرس لكم ذلك؟ عندها نهض واقفا يسألنى فى ذهول: ومن أين عرفت بالدكتور على الراعي.
فى تلك السن كنت مولعا بالمسرح الذى أواظب على مشاهدة ما يُعرض على خشبته فى مسرح المنصورة الذى كان بمنزلة أوبرا صغيرة رائعة الجمال ( وهى التى تضررت بشدة إثر التفجير الإجرامى الجهول الذى نال منها بمصاحبة تفجير مبنى مديرية الأمن المقابل لها )، وقد ساقنى هذا الولع بالمسرح إلى التعرف على ما تنشره سلسلة المسرح العالمى بأسعار زهيدة، وكنت أقرأ نصوصها بصوت مسموع ملونا نبراتى بما كنت أتصور أنه يناسب كل شخصية، ولعلى كنت أتصور أننى سأغدو كاتبا مسرحيا، وفى هذا السياق قرأت للدكتور على الراعى ما يكتبه عن المسرح، وقادنى ذلك لتلقف كل ما أصل إليه مما يكتبه عن المسرح وغير المسرح، بلغة جميلة وسلسة فى مجلة «المجلة» التى كانت تنشرها الهيئة القومية للكتاب بقروش قليلة.وصار اسمه عنوانا على نجم عال فى سماء الثقافة التى أرنو إليها بأحلام وأوهام ذلك العمر.
تمر السنون، وأبدأ نشر قصصى الأولى وأنا طبيب شاب لم أغادر المنصورة، ثم أقرأ اسمى مقرونا باسم هذا النجم العالى الذى دون أن يعرفنى أو يرانى كتب مقالا نقديا عن هذه القصص، فأجد نفسى أنهض واقفا فى ذهول كما وقف ابن خالتى الكبير عندما تفاجأ بنطقى لهذا الاسم، ومكثت واقفا أقرأ ما كتبه عنى الدكتور الراعى حتى غامت الرؤية فى عينى اللتين ترقرقتا بالدموع، فلم يكن ما كتبه فقط نقدا، بل كان حبا من عملاق كبير نبيل ثبت أنه لم يكن يكتب إلا عما يحب، فيحبب القارئ فى النقد مثلما يحببه فيما يتناوله نقده، ومن ثم يقوم بنوع من الفرز البديع متنائيا عن كل قسوة وكل استعراض لسلطوية النقد. وقد كان صادقا نقى الصدق عندما بلور ذلك فى حديثه مع الراحل العزيز فاروق عبد القادر، إذ قال: «إننى لا أكتب نقدًا بقدر ما أحاول أن أرد الجميل للكاتب الذى أمتعنى من خلال كتاباته». ولهذا كان دقيقا أن يوصف الدكتور على الراعى بأنه « ناقد محب لايقترب من الأعمال التى يكرهها، لكنه يتعرض لتلك الأعمال التى تمس قلبه حتى تفجر ما فى أعماقه من أفكار خصبة ومشاعر صادقة».
لقد قال الدكتور الراعى متحدثا عن مهمة النقد فى حديثه المشار إليه مع فاروق عبد القادر« فى كل الأحوال، علينا أن نذكر دائما أن إحدى المهام الكبرى للنقد هى حراسة الحركة الأدبية، بمعنى حمايتها من الأدعياء والمتطفلين والمتسلقين»، ويا لها من حراسة وحماية جمالية وأخلاقية تخالف تماما منطق التسلط والقسوة الملازمين فى المعتاد لكل حراسة وحماية. ولم يكن هذا النقد الجمالى والأخلاقى سبيله الوحيدة لحراسة وحماية الحركة الأدبية، بل الثقافية عموما، فهو لم يكن ناقدا أدبيا فقط، بل كان ناقدا ثقافيا بأرحب ما يكون معنى الثقافة، ومُحرِّكا ثقافيا أساسيا بين المحركين الكبار فى ذروة الحراك الثقافى فى بلدنا وفى عالمنا العربي. كان أستاذا جامعيا يقف تلاميذه عندما يُذكر اسمه، ورئيسا لتحرير مجلة المجلة التى كانت منارة ثقافية عالية وفريدة، ومؤسسا لصروح فنية جمعت ما بين فنون العالم وفنوننا الشعبية عندما رأس هيئة الموسيقى والمسرح المسئولة عن المعاهد الفنية التابعة لوزارة الثقافة. وكان إلى هذا كله، لا يستكبر أن يكون مقدما لبرامج إذاعية مادام ذلك يُقرِّب الثقافة لعموم الناس.
آه ما أبعد اليوم عن البارحة، وما أعجب أن الدكتور على الراعى قد لمح هذا الابتعاد مبكرا، لكنه بالروح الجميلة نفسها التى ظلت تسكن كيانه الثقافى والإنسانى حتى رحيله، قال وهو يلمح نُذر الغيوم السود تتكالب على الأفق: « ترغم كل شواهد السلب مازلت أعتقد أن الإنسان سوف يتخطى العقبات القائمة فى وجه نشر العدالة الاجتماعية، وخدمة الناس خدمة كاملة بصرف النظر عن اللون والجنس والمعتقد، ومازلت أعتقد أن الله خلق الأرض ليتمتع بخيراتها الناس جميعًا، لا فئة محدودة تمتلئ كروشها وجيوبها، وتفرغ عقولها، وتعيش أرواحها فى خواء». ولم يكن قوله ذاك فقط استبصاراً اجتماعياً سياسياً، فقد كان ثقافيا فى جوهره، ولعل ما نراه اليوم من احتجاج عالمى على عنصرية التمييز بين البشر، واكتشاف جوهر العلة فى امتلاء الكروش وتفريغ العقول وخواء الأرواح، كل ذلك لم يكن إلا استبصارا ثقافيا، من صانع ثقافة كبير.
آه أتنهد بها وأنهض واقفا لأطل عبر واجهة شقتى ناظرا إلى الشارع الذى أسكنه وكان يسكنه الدكتور على الراعى وأسرته الكريمة، وأحار فى تحديد المكان الذى إما أنه كان يجاور البيت الذى سكنه البهى أحمد بهاء الدين، أو يواجهه، وفى الناحيتين لا أبصر إلا برجين سكنيين دميمين، أحدهما مخالف مخالفة جسيمة أبقته مهجورا منذ وقع عليه بصرى قبل عشرين سنة. وأرفع بصرى عن ثقل الدمامة وقبح الخراب، ملتمسا العزاء فى زرقة السماء الرحيبة، وفى تلك الرحابة الحانية أنتبه إلى أننى أتذكر مأثرة الدكتور على الراعي، واقفا.. بحب.. واحترام.
....................
رابط دائم: