رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الصـورة وعكسها

د. سهير المصادفة;

هل يوجد الآن فى الحياة ما لا يُباع وما لا يُشتري؟! لا أدرى متى اختفت هذه العبارة من قاموس البشرية؟! ربما مع ازدياد توحش الرأسمالية، وربما مع هيمنة الثورة التكنولوجية والميديا الحديثة على حياتنا؛ لتجعلنا ندور فى دوائر استهلاكية مفرغة لا نهاية لها.

..............

فاز الفيلم الجنوب كورى «طفيلي» Parasite المعروض عام 2019 بجائزة أوسكار أحسن فيلم؛ ليكون الفيلم الأوَّل الفائز بالأوسكار رغم أنه ناطق بلغة غير اللغة الإنجليزية، وذلك بعد اثنين وتسعين عامًا، هى عمر الجائزة الأكبر والأشهر للأفلام السينمائية.

وفى الواقع لم يُرشح فيلم «طفيلى» قبل الأوسكار لأى جائزة إلا حازها، سواء فى مهرجان كان أو الجولدن جلوب. وكانت فرحة النقاد والمثقفين والمتابعين للسينما فى العالم كبيرة؛ لسببين: أوَّلهما: أن فوز الفيلم يمنح دول العالم فرصة منافسة السينما الهوليودية التى تحتكر كل الجوائز ومعظم أسواق توزيع الأفلام، وتعتبر أفلامها السينمائية هى برديات حضارتها الحديثة مثلما كانت برديات الفراعنة ومنحوتاتها وعمارتها هى رسائل حضارتها القديمة، حيث تدشن هوليود كل ما تملك من علوم وتكنولوجيا وثروة وفكر وفلسفة لصناعة السينما وتعتبرها جزءًا مهمًا من صناعتها الثقافية الناعمة التى غزت العالم؛ لتنشر لغتها الإنجليزية وعاداتها وتقاليدها وسياساتها فى العالم بأسره.


بوستر الفيلم الكورى


والسبب الآخر لهذه الفرحة أن فوز «طفيلى» بالجائزة يدحض آراء بعض صُناع السينما فى مصر، من الكسالى الذين حوَّلوا كلَّ شيء إلى بيع وشراء، وربح وخسارة مرددين مقولتهم الشهيرة: «الجمهور عاوز كده»، والجمهور هنا برىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فهو المسكين يجلس فى بيته منتظرًا حتى يدعوه هؤلاء للفرجة على أحد أفلامهم، ولو أنه استيقظ ذات يوم ودعوه إلى فيلم جاد لما رفض الحضور ولتغيرت ذائقته وحياته كلها. كما أن بعض المنتجين يؤكد: «أن سينما القضايا الكُبرى وهموم الناس قد ماتت إلى الأبد»، أو أنه «لم يعد هناك ما يُقال بطريقة جادة»؛ لذلك نحن نكتفى بثلاثة مكونات لأفلامنا هي: بلطجى يحمل سنجة، وراقصة، وأغنية أو اثنتان من أغانى المهرجانات. وهكذا... ظلوا طوال ربع قرن أو يزيد يرددون هذه المقولات حتى أضاعوا مجد السينما المصرية وريادتها التى كانت إلى جوار السينما الهوليوودية والهندية تتصدر بلاط المهرجانات العالمية الكبري.

يدور فيلم «طفيلي» حول قضية جادة وتقليدية جدًّا، وفى الوقت نفسه مذهلة بمعالجتها السينمائية الجديدة، وهذا هو إعجاز المخرج الكورى الجنوبى «يونج جون هو»، ففى إطار الكوميديا السوداء التى تتناول المصائب والكوارث الإنسانية بشكل فكاهي، نتابع حياة أسرة فقيرة تعيش فى أجواء أقسى درجات توحش الرأسمالية فى كوريا الجنوبية، يسكن أفرادها الأب والأم والابن والابنة فى شقة بالبدروم أو حرفيًّا تحت الأرض، ما إن تمطر السماء حتى تغرق؛ ليختلط ماء المطر مع مياه الصرف الصحي، جميعهم عاطلون عن العمل، ويتطفلون على الجيران لسرقة الإنترنت، ويتطفلون حتى على عربات الرشِّ التى تدور فى الشوارع والحوارى لتعقيمها من الحشرات والطفيليات، فيفتح الأب الشباك حتى يدخل دخان المبيدات؛ ليتخلص من الصراصير المتكاثرة على مائدته، ولكنه يستنشقه هو وعائلته أيضًا فى رمز افتتاحى للفيلم، وكأن المخرج ينبهنا إلى أن هذا الأب وعائلته هم الطفيليون العالة على المجتمع.

تنتقل الكاميرا بين القصر الفخم للأثرياء، وشقة البدروم غير الآدمية للفقراء، وهى لا تحيد عن المكانين ومحيطهما، تنتقل بخفة معلنة أشكال الصراع الطبقي، بإضاءة خافتة مقبضة تليق بالبدروم، وإضاءة ساطعة تعكس ضوء الشمس على حمَّام سباحة القصر، وتليق بقوس قزح الخارج من هندسة ديكوره واللوحات التشكيلية المزينة لجدرانه. أما الموسيقى التصويرية فهى أكثر من رائعة أيضًا، حيث لا نشعر بوجودها من فرط جمالها واتساقها مع المشاهد، وهى تترجم أصوات الحى العشوائى الفقير، بخشونته وصخبه، ثم تترجم لمعة القصر وأصواته الخافتة الحالمة وهسيس أشجار حديقته المنمقة.

تنطلق الأحداث حين يلتحق الابن «كى وو» عن طريق أحد أصدقائه بوظيفة مدرس للغة الإنجليزية لابنة أحد الأثرياء، تعيش الأسرة الثرية فى قصر رائع، صممه مهندس فنان؛ ليكون آية فى الهندسة المعمارية، والعائلة الثرية تتكون أيضًا من أب وأم وابن وابنة. يزوّر «كى وو» الذى قام بدوره الممثل الكورى «تشوى وو شيك» شهادته الجامعية، حيث إنه فشل بسبب ظروفه الاجتماعية المزرية فى الالتحاق بالجامعة، وما إن يرى الشاب صور الرفاهة التى تعيشها الأسرة الثرية حتى يعمل على إلحاق جميع أفراد أسرته العاطلين بالعمل لديهم، فيتحايل حتى يتسبب فى طرد سائق الأسرة ليحل مكانه أبوه، ومديرة المنزل لتحل مكانها أمه، أما أخته فيقنع صاحبة القصر بأن توظفها مرافقة لابنها الصغير بعد أن يقنعها بأن خربشات الفتى على لوحة تافهة تحتاج إلى رعاية متخصص فى العلاج النفسى بالفن التشكيلى!

تجد العائلة الفقيرة نفسها فى قصر العائلة الثرية، أخيرًا يأكلون ويشربون مثل الآدميين، ولكنهم عبر الكثير من المواقف الكوميدية المضحكة يفكرون: كيف سيواصلون الاحتفاظ بوظائفهم فى ظل كل هذه الأكاذيب، حيث لا تعرف العائلة الثرية أن خدمهم الجدد هم فى الواقع عائلة واحدة؟! وبينما يردد الأب الذكي: «إن أنجح الخطط هى اللاخطة»، تأتى الإجابة مع رنين جرس الباب فى أثناء احتفاء العائلة الفقيرة بسفر العائلة الثرية للقيام برحلة، فيستمتعون بنومهم فى القصر وكأنه بيتهم.

تكون على الباب مديرة المنزل السابقة التى تسببوا فى طردها، تطلب منهم بأدب استعادة شيء تركته فى المطبخ، ونكتشف أن هذا الشيء هو زوجها الهارب من الدائنين وقد أخفته مدة طويلة فى قبو القصر، وكانت تطعمه وتخفيه عن أعين الجميع. ثم تتصاعد الأحداث بطريقة عنيفة، ويجد الفقراء أنفسهم فى صراع دموى من أجل الحفاظ على وظائفهم وعلى فتات القصر. ويذكرنا مشهد النهاية على الفور بنهاية فيلم المخرج المصرى الراحل «يوسف شاهين»: «عودة الابن الضال» 1976، حين لم يجد حلًا إلا قتل الماضى بكل أطرافه المتصارعة الظالمة والمظلومة، حتى لم يتبق أحد إلا شباب الجيل الجديد وهم يركبون عربة؛ لتقلهم إلى المستقبل بأفقه المفتوح، وكذلك فعل المخرج الكورى حين قتل الجميع فى مشهد دموي: الأثرياء والفقراء، ولم يتبق من الفقراء إلا الابن الشاهد والراوى والأب الذى اختبأ فى القبو، وكأن هذا القبو هو سكن الفقراء الدائم، هذا القبو الذى لم تكتشف وجوده أى أسرة ثرية تسكن القصر، فى إشارة إلى توحش الرأسمالية إلى درجة عدم معرفة الأثرياء عالم الخدم والعمال الذين يخدمونهم وينتجون سلعهم.

كنت أفضل أن يظل اسم الفيلم كما اختاره المخرج فى البداية: «الديكلومانيا» وهى تعنى صورة ما وعكسها على سطح آخر، ولكن تم تغيير اسم الفيلم فى لحظته الأخيرة إلي: «طفيلي» المباشر، والرائج تجاريًّا، ورغم ذلك تظل رؤية المخرج واضحة، حيث تشابه العائلتين الفقيرة والثرية من حيث عدد الأفراد، وحيث منح العائلة الفقيرة الذكاء الفطرى والتحايل على ظروف الحياة المجحفة، والتأهيل والتعليم المناسب للالتحاق بسوق العمل المتوحش، فالأم مثلًا كانت فى شبابها حاصلة على ميدالية ألعاب قوي، والأب «كيم كى تايك» وقام بدوره الممثل الكورى الشهير: «سونغ كانغ هو» هو سائق محترف، والابن والابنة متعلمان تعليمًا جيدًا ونابغان فى التعامل مع الحواسب الذكية. وفى المقابل الأسرة الثرية ساذجة وتافهة واستهلاكية، وأعمق حوار لها كان بين الزوجة والزوج حين سألها عن مصدر هذه الرائحة الغريبة والكريهة التى تلتصق بخدمهم الجدد، فيجيب الأب الفقير المختبئ وهو يسمعهما: «إنها رائحة البدروم». لا يرى المشاهد العائلة الثرية تنتج شيئًا ملموسًا حقيقيًّا غير الانشغال بعمل حفلة عيد ميلاد غير مسبوقة لابنها تجعل المجتمع البورجوازى يتحدث عنها طويلًا. ممَّا يجعلنا نتساءل: «تُرى مَن هو الطفيلى بالضبط من العائلتين»؟!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق