سبقتها إلى التمدح بذكر الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصائد عدة، إلا أنها تظل سيدة فن المديح النبوى التى ذاعت شهرتها فى الآفاق وتنافس الشعراء فى معارضتها وتخميسها وتثليثها وتشطيرها، وتناولها تسعون شرحا بالتحليل الأدبى لبلاغتها وفصاحة صاحبها، حتى قيل إن «بردة البوصيري» أشهر قصيدة مدح فى الشعر العربى بين العامة والخاصة.
وحول قصيدة «البردة» أو «البرأة» أو «الكواكب الدرية فى مدح خير البرية» للبوصيرى صدرت دراسة علمية فى كتاب جديد للكاتب لواء الحمد عبدالله تحت عنوان «بردة المديح المباركة» عن دار الكتب العلمية ببيروت، لتلقى مزيدا من الضوء على البردة التى يتجدد ثوبها مع الزمن، خاصة أنها جاءت متفردة فى المضمون والبناء الفنى وعناصر الإيقاع والصورة الشعرية. وتتناول صفات النبى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفضله على النبيين وسائر الخلق أجمعين.
يقول المؤلف إن المدائح قبل البوصيرى كانت تكتفى بذكر شمائل الرسول وصفاته، فى حين أن البردة تعد ملحمة تؤرخ للسيرة النبوية، وهى من خوالد الشعر العربي، حيث تفوق البوصيرى فيها على نفسه، فبلغت من البيان والبلاغة أعلى نصيب، ويكفى أن أمراء الشعر فى العصر الحديث عارضوها بقصائد على بحرها ورويها، وأشهرهم البارودى وشوقي، وأن لها أثرا كبيرا فى اللغة العربية، إذا لاتزال تنشد فى مجامع أهل اللغة وحضرات أهل الصوفية، ويقرأها بعض المسلمين فى معظم بلاد الإسلام كل ليلة جمعة.
ويضيف لواء الحمد أن بردة البوصيرى كانت سببا لميلاد خزانة فى مديح الرسول عامرة بالكتب والشروح والبديعيات التى من أشهرها بديعية ابن حجة الحموي، وقصائد ابن نباته المصري، مشيرا إلى الصعوبات التى واجهته عند تصديه لهذا العمل مثل ندرة المصادر العربية القديمة مما دفعه للبحث فى المخطوطات.
ويأتى الكتاب فى ثلاثة فصول تقدمها تمهيد أوضح فيه المؤلف معنى كلمة «بردة» لغويا وأدبيا، والسبب الذى دفع البوصيرى لنظم قصيدته، ووجه الشبه بينها وبين قصيدة كعب بن زهير التى أنشدها معتذرا بين يدى الرسول فعفا عنه، ونظم البوصيرى قصيدته وهو مصاب بالفالج فشفاه الله إثر رؤيا أنشد فيها القصيدة بين يدى الرسول فألقى عليه بردته.
ويدور الفصل الأول حول البوصيرى سيد المادحين، وهو ـ كما أجمع المؤرخون ـ مصرى المولد والدار والوفاة (608هـ ـ 694هـ)، وقد عاش حياته فى ظلال الدولة الأيوبية وأوائل دولة المماليك، وهو العصر الذى نشط فيه جهاد الصليبيين دفاعا عن الوطن والإسلام، ويقدم الفصل الثانى شرحا وافيا لأغراض القصيدة، فيما يركز الفصل الثالث على أهمية البردة كأعظم آثار التراث الإسلامى والصوفي.
وكان لثقافة البوصيرى أثرها الكبير فى جعل البردة من أشهر قصائد المديح البنوي، إذ جاء معجمه ثريا وأسلوبه مفعما بالكثير من الإشارات الدينية والنحوية واللغوية، مستلهما أحداث التاريخ الإسلامي، ومستفيدا بأسلوب القرآن وقصصه والأحاديث الشريفة، موظفا ذلك فى إجمال تارة وفى إشارة خفية تارة أخري.
رابط دائم: