قالت د. وفاء إبراهيم أستاذ علم الجمال بجامعة عين شمس إن أصحاب المصالح العالمية استغلوا اختلاف التركيبة الجغرافية فى عالمنا العربي فى إشعال صراع الهويات الذى بدأ بانفصال سوريا عن مصر وفشل الوحدة ، مشيرة إلى أن »السرسبة«استمرت وتم التمزيق بسكين حاد للشرايين الحيوية بين أوطاننا بأساليب مختلفة، إلى حد استخدام بعض من أصحاب البيت حتى يفتح الباب وتنكشف الثغرات وهو ما يحدث فى لبنان وليبيا الآن .وأضافت فى حوار مع » الأهرام » أن السبيل إلى التناغم يحتاج إلي وعى بالمصير،مشيرة إلى أن مصير العالم كله على المحك، ولن ينقذه إلا العودة إلى القيم الإنسانية.
كيف ترين مشهد كورونا الذى ملأ الدنيا وشغل الناس؟
المشهد يذكّرنى بمقالة أستاذنا د.زكى نجيب محمود »مجتمع جديد أو الكارثة » حيث أفرغت العولمة الحضارة الإنسانية من مضامينها القيمية والروحية والإنسانية ، فالفقير باع نفسه بحسب مصالحهم » مقاتل فى حروب، تجارب طبية، أو تجارة جسد ».
هل يمكن أن نجد فى علم الجمال ما يساعدنا على مواجهة الجوائح؟
علم الجمال او« الاستطيقا »لا يخاطب الجماهير وإنما الفن هو الذى يقوم بهذا الدور، »الاستطيقا »تضع معايير الفن الجميل،وتستخدم كل ملكات الإنسان ، ولا أبالغ إذا قلت إن ابداع الجمال وتذوقه عملية تنموية لأن جوهره تربية الذوق والوعى الابداعى ، ولذلك أرى ان نقطة البدء هى المبدع فى أى مجال من مجالات التخصص.
وكيف ترين دور النخبة؟
فى الواقع أغلب رموزنا الفكرية والأدبية اتفقوا على أن الثقافة أوسع من التعليم، وهناك أطباء ومهندسون ومحامون على قدر كبير من الثقافة تذوقا وابداعا، وتبرهن تجربتى فى جمعية محبى الفنون الجميلة على خطأ اقتصار صفة مثقف على فئة بعينها ، فقد رأيت تنوعا ثقافيا شديد التميز، فقد كان الطبيب الجراح د.على إبراهيم بجوار د.على المفتى بجانب المعمارى كمال الدين سامح وايضا عاشق الموسيقى طبيب القلب الكبير د.على عرفان جميعا فى تفاعل عجيب مع الفنانين التشكيليين والشعراء والأدباء والنقاد وأساتذة الفلسفة والنقد الأدبى أيضا كنا نجد الصحفيين الكبار، كل هذا أدى إلى اجتذاب جمهور كبير متنوع وترك البرنامج الثقافى أثرا كبيرا، كانت تجربة تتميز بالتقبل العام وتبادل الاحترام والتقدير ثم العطاء المنزّه عن الغرض بدون جوائز او مناصب او شللية فقط مسابقات بين شباب الفنانين من أجل الارتقاء بالفن التشكيلى .
سمعنا كثيرا » جعجعة« عن النهضة والحداثة ولكن لم نر طحنا..أين الخلل؟
هذا سؤال مركب ويحتاج كتابا أو بحثا مطولا، ولا أستطيع القول إن كل محاولات الإجابة على سؤال النهضة جعجعة بلا طحن، أعتقد أن المشكلة فى النظر إلى التراث على أنه هو مانسلم به والمفارقة أنها نفس الآلية التى كان يفكر بها الكفّار «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون»، وجاء الإسلام ليثور عليها، بمعنى إن الأمر لا يتحدد فى فعل التسليم بالتراث، وإنما الأحرى هواستلام قواعد التراث، وأن أبقى على ما يستطيع تنفس روح العصر وأستبعد ما لا يستطيع ، وأقدم نماذج لمن أسمّيهم «الانتقاليين»« وهم القادرون على تمثل تراثهم ويحملونه كرءوس حربة أينما ذهبوا حيث يرى الآخرون من خلالهم التراث حيا يسير على قدمين. مثلا د.مجدى يعقوب مثل فى عقر دار الغرب المصرية النموذج ، كذلك د.فاروق الباز لايزال وهو فى قلب أمريكا ممثلة العالم الجديد هو ابن البلد المصرى بثقافته الإسلامية، هذه النماذج وغيرها الكثير هى من يحيى التراث وليس من يخفى ملامحه وجوهر فاعليته من كون الإسلام خطابا للعالمين قادرا بقوة نسقه الاخلاقى ان يتعارف ويتعاون ويشارك البشر جميعا .
من أين تأتى الفاعلية وشبابنا تحاصره ثقافة مضطربة تلقى له من خلال الشبكات الإلكترونية ؟
كما استطاعت شخصيات تكوين نماذج حاملة لجوهرنا، نحن نحتاج النظر فى معنى النافلة، وهى العبادة التى يؤديها المؤمن متطوعا فى شهر رمضان او غيره، بحيث يتسع معناها وفهمها فى ضوء العصر، فأمريكا مثلا اصبحت الحضارة الأقوى بعد ان حققت تقدما على أوروبا، هذا التجاوز هو النافلة التى تعلو الضرورة، وأصبح لديها أفق جديد، فلماذا لانتسع بمعنى النوافل حتى يصبح له مردود اجتماعى وليس مردودا فرديا، فنجنب أطفالنا وشبابنا ضيق التفكير وفقر الخيال ولا يقعوا أسرى إغواء تفكير مابعد الحداثة الذى يجيد الخطاب المؤثر الحماسى وهو للأسف مضمونه وجوهره نسيان نشط للماضى والتاريخ، ومن ثم نرى ما نرى من عجب أن يدعى انه حقوقى او يدافع عن الإسلام وهو يلقى بحججه بلغة رديئة تصل إلى الإسفاف أحيانا، لماذا؟ لانه ليس متدينا كما يدعى (مسلم / مسيحي) والا كان حواره منفتحا على الآخرين يتصف بالترتيب والترابط، لان لديه باعثا خفيا يدعوه إلى ان يحافظ على جوارحه انه تربى من خلال فهم واسع للنوافل، ومن ثم يرتقى وأمته إلى مصاف الأمم المتقدمة.
على من تعولين لإعادة الجمال والإحساس به إلى الشارع المصري؟
قد يرى البعض أن هذا السؤال يمثل نوعا من الترف، لأن ما يحيط بنا جميعا ينذر بالخطر، إلا أننى أرى أن الخطر حين ننتبه إلى ابعاده ، يظهرنا على مواطن الأمان والثقة وكيفية تحقيقها، بمعنى أن استخدام المداخل الشوفينية لا يصلح، لانه يبعث شحنات غير هادئة تسبب الانفعال والقلق ، كذلك مدخل« الطبطبة« يسفر عن نتائج سلبية قد تصل إلي حد خلق شخصية اعتمادية، أما المدخل الجمالى واستعادة الإحساس بالجمال وتذوقه فيبعث رسائل اطمئنان، ولذلك أسعدنى جدا تزيين ميدان التحرير بوضع مسلة رمسيس الثانى والكباش، وأتمنى ان يصل هذا التجميل إلى محطات المترو والميادين بوضع تماثيل ومنحوتات دالة وفى مخازننا الكثير، أيضا فى جو« كورونا« والعزلة فى البيوت لا مانع من إقامة مهرجانات الزهور والنباتات على نحو راق فى الميادين والساحات تباعا، وكذلك معارض محددة اللوحات للفنانين التشكيليين تنقل بشكل مهنى جيد مع استضافة ناقد فنى للتقييم شريطة أن يتم ذلك بتوزيع عادل بين الفنانين والنقاد وبمساحة إعلامية محترمة، أيضا ممكن موسيقى لآلة أو ثلاثة على الأكثر لعزف موسيقى مصرية وأوروبية، كل ذلك يحقق التقارب والوحدة وتوزان الداخل حيث يوجد الإحساس بالجمال كيمياء الحب بين المصرى ووطنه، الجمال وحده هو القادر على توسعة شرايين ضاقت من الجهل وإثارة الفتن والازدواجية، ومناخ الإبداع والتذوق هو بوتقة انصهار الكل (الاختلاف) فى واحد. وسأضرب لك مثالا للفتاة والمرأة المصرية زمن عمل الكحك فى البيت ان هذا الحدث البسيط أنتج المشاركة وروح فريق العمل والإبداع الفردي/الجماعى وقدم امرأة مصرية تجيد إدارة بيتها على كل المستويات، هكذا نستعيد الجمال ووحدتنا الذاتية وروح الفريق فنواجه بإذن الله اقوى الأخطار .
فرّقت فى كتابك الأخير » النقد الجمالى وإعادة تشكيل الواقع » بين قوة الحب وحب القوة..كيف نستعيد الأول ونروض الثاني؟
هذه المقولة لا تفهم إلا بقراءة البحث الذى كتبته فى بداية أزمة سد النهضة ايام الإخوان وقلقى على »الهوية المصرية« قلت إن هؤلاء الذين أقاموا مشاريع على ضفتى النيل ولوثوه وشوهوه كمصدر متعة للإنسان المصرى البسيط ومصدر الهام للشعراء، استغلوه وأهدروا مياهه الأمر الذى أدى بالمترصد بما تملكه مصر من موارد وبها تحقق ارتقاء لا يقبله، وبدأ الأمر بالإشارة إلى إهدار مصر فى المؤتمرات الخاصة بموارد المياه وللأسف فى الداخل كانت نخبة رجال الأعمال تعتنق مبدأ حب القوة وضاع منها ومن يشاركها قوة الحب الذى عاشت به مصر واستطاعت بقوته ان تحمى حدودها ومواردها .
أثرت فى كتابك الأخير قضية الصراع القائم والمستغل بين التركيبات النفسية الصحراوية، الجبلية، النهرية فى بلادنا العربية، كيف ترين أثر هذا الصراع، وهل من سبيل إلى التناغم؟
لاشك أن من المهم أن نضع فى خلفية التحليل العلوم الحديثة عن الاثنية وماقدمته الانثربولوجيا والعلوم النفسية والبيولوجية من معلومات مفاجئة ومنهمرة ولاسيما على البلاد العربية والافتقار إلى عقول ومفكرين وترجمة تلاحق هذا التقدم وتحليله ونقده، وأصبح الأمر فى يد مجموعة قليلة من النخبة تتحدث بلغة متجاوزة وعى وإدراك الجماهير، على أية حال أدى هذا إلى استغلال اختلاف التركيبة الجغرافية التى تنعكس على الفكر والثقافة من قبل أصحاب المصالح فى إشعال صراع الهويات الذى بدأ بانفصال سوريا عن مصر وفشل الوحدة،واستمرت السرسبة التمزيقية بسكين حاد للشرايين الحيوية بين أوطاننا بأساليب مختلفة ، إلى حد استخدام بعض من أصحاب البيت حتى يفتح الباب، وتنكشف الثغرات وهو ما يحدث فى لبنان وليبيا الآن، والسبيل إلى التناغم يحتاج وعيا بالمصير وإدراك حجم النخر الحادث فى داخلنا وإدراك أهمية الإيمان بما نمتلكه؛ لأن مصير العالم كله على المحك ولن ينقذه إلا العودة إلى القيم الإنسانية وعلى رأسها المشاركة من أجل صحة الإنسان العقلية والنفسية، ولا أبالغ إذا قلت إن الجمال وحده قادر على إنقاذ العالم.
رابط دائم: