وسط الغضب الذى عم الولايات المتحدة والعالم فى أعقاب مقتل الشاب الأمريكى الأسود جورج فلويد على يد شرطى أبيض، عادت قضية إزالة وتدمير التماثيل التى ترمز لقادة الفكر العنصرى للتفجر من جديد. فبينما يرى البعض أنها تعطى نماذج سيئة للأجيال الصاعدة، وتعد تكريما لأفكار سيئة، يجب التخلص منها. يعتبر آخرون أنها جزء هام من التاريخ لا يمكن محوه، وإرث ثقافى إنسانى يجب الحفاظ عليه وحمايته.
إلا أن هذا الجدل لم يثن المحتجين عن تدمير كل ما يمت بصلة لحقبة مظلمة من العنصرية، سواء داخل أمريكا أو خارجها، معتبرين أن ذلك لا يمثل سوى حقبة سوداء فى التاريخ الإنسانى، لا تليق بأن تكون إرثا يستدعى الحفاظ عليه. ولعل الهدف الأول للمتظاهرين من بين كل التماثيل التى تم تحطيمها منذ مايو الماضى، كانت تماثيل جنرالات الحقبة الكونفيدرالية فى التاريخ الأمريكى، التى دخلت خلالها ولايات الجنوب الأمريكى فى حرب طاحنة مع الشمال ما بين عامى 1861 و 1856، راح ضحيتها نحو مليون شخص كان محورها القضاء على العنصرية. الخطوة الجريئة لم تتوقف فقط لدى حدود الشارع والرأى العام الشعبى، بل امتدت للمسئولين أيضا، فاتخذت بعض الولايات والمنظمات قرارات جريئة لإزالة رموز الكونفيدرالية، كحاكم فرجينيا رالف نورثام الذى أمر بإزالة تمثال الجنرال روبرت لى، وقرار متحف التاريخ الطبيعى باستبعاد تمثال للرئيس الأمريكى الأسبق ثيودور روزفلت، ظهر خلاله يمتطى جواده، بينما يقف إلى جواره عبد أسود، وآخر من سكان أمريكا الأصليين. التمرد الذى لقى استحسانا فى البداية من جانب كثيرين، على اعتبار أن الجدل كان دائرا بالفعل منذ فترة حول جدوى بقاء مثل تلك التماثيل وتكريم أصحابها فى الشارع الأمريكى، بدأ يتخذ منحى آخر، مع اتساع دائرة الغضب لتشمل آخرين كان لهم بصمتهم الحقيقية فى التاريخ الأمريكى، ولعبوا دورا فاعلا فى تأسيس البلاد الحديثة على مبادئ الحرية وأسس الديمقراطية كجورج واشنطن، وتوماس جيفرسون ، فقط لامتلاكهم عبيدا إبان فترة حكمهم للولايات المتحدة. هنا انتفض النقاد وأساتذة التاريخ للدفاع عن ماضى واشنطن وغيره من المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة، الذين خاضوا حرب انفصالها عن بريطانيا، وعملوا على توحيد البلاد، موضحين أن تكريم هؤلاء وصناعة تماثيل لهم ليست بهدف تكريم حيازتهم للعبيد، ولكن كقادة عظام للبلاد، ساعدوا على وصولها إلى مكانتها التى هى عليها الآن. وأثار قرار استبعاد تمثال روزفلت من متحف التاريخ الطبيعى أثار الكثير من السخط أيضا، على اعتبار أن الهيئة التى ظهر عليها التمثال تعكس وجهة نظر ورؤية صانعه فى المقام الأول، وأنه كان من الممكن استبعاد الجزء الخاص بالعبد الأسود ورمز السكان الأصليين منه، والحفاظ على روزفلت وحده داخل المتحف، تقديرا لدوره فى البلاد كسياسى إصلاحى ومؤلف ومستكشف وجندى وعالم طبيعة . وفى هذا الصدد، يقول الكاتب الأمريكى بول فينكيلمان إنه ينبغى وضع أبطال البلاد وزعمائها فى سياق أوسع لدى عرض تماثيلهم كتقدير لكل ما قدموه للبلاد، مع الأخذ فى الاعتبار أنهم لم يكونوا ملائكة أو قديسين، فلكل منا أخطاؤه، وسقطاته. إن تحطيم التماثيل قد يدفع أى بلد إلى موجة من العنف لا يعرف مداها أحد، فلكل فكر مؤيدوه ومعارضوه ، وتكسير رموز فكر بعينه ، قد يدفع آخرين لتحطيم رموز الفكر الآخر، لتسقط البلاد فى النهاية فى حرب أهلية مدمرة.
رابط دائم: