آيا صوفيا أو سانت صوفيا «الحكمة المقدسة» تحفة معمارية وشهادة فريدة على التفاعل بين أوروبا وآسيا على مر القرون، إن طبيعتها كمتحف فى المنطقة التاريخية من مدينة إسطنبول التركية «يعكس الطبيعة العالمية لتراثها، ويجعلها رمزا قويا للحوار»، حسب توصيف منظمة اليونسكو، إلا أن هذه التحفة المعمارية لم تفلت من احتقار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان للقيمة والتاريخ فى سبيل إحياء العثمانية الجديدة مهما كان الثمن. إن الاعتداء على التراث الحضارى والثقافى العالمي، من شيم المعتدى الراغب فى التدمير والوقوف على أطلال التاريخ، هدفه يتمثل فى الإبادة الثقافية وترقى إلى جرائم الحرب. وكما اعتاد الرئيس التركى على الاستفزاز وانتهاك القوانين الدولية والإنسانية والأعراف، فقد عمد إلى فتح ملفات وعودة الانتخابية القديمة، ليخرج منها بقرار تحويل متحف «آيا صوفيا» إلى مسجد ليغازل المتطرفين والقوميين من أنصاره. أردوغان يقف على حافة الهاوية، فمغامراته العسكرية فى العراق وسوريا وليبيا، ولهاثه وراء بترول الهلال النفطى وشرق المتوسط، لم يشفع له عند الأتراك، مع انهيار أسطورته «الاقتصاد»، فالليرة أصبحت دليلا دامغا على فشله.
آيا صوفيا بنيت عام 537 ميلادية من قبل الإمبراطور البيزنطى جستنيان الأول، ثم تحولت إلى مسجد بعد الفتح العثمانى للقسطنطينية عام 1452، ثم جاء أتاتورك ليحولها إلى متحف عام 1934، كنوع من تحويل الانتباه عن جرائم الإمبراطورية العثمانية فى حق المسيحيين من أرمن وآشوريين ويونانيين. ومع توالى الانتقادات الدولية لقرار أردوغان سواء من الفاتيكان أو روسيا والحليف الأمريكي، كان حديثه المعتاد عن السيادة ورفض التدخل فى شأن داخلي. ومثلما قاد هولاكو جنوده المغول لتدمير الحضارة الإسلامية ومحو آثارها عبر حرق مكتبة بغداد وإغراق كتبها فى نهر دجلة، يسعى أردوغان لتخريب التاريخ وإحدى جواهر التاج الحضاري. المنتقدون المسلمون لتحويل آيا صوفيا إلى مسجد يدحضون قرار أردوغان ويستشهدون برفض الخليفة الثانى سيدنا عمر بن الخطاب للصلاة فى كنيسة القيامة بعد دخوله بيت المقدس، حتى لا يتخذها المسلمون مصلى. تدمير الحضارة والثقافة ليس جديدا على الفكر الإرهابي، فقد نهب تنظيم داعش ودمر التراث الثقافى فى العراق وسوريا وليبيا منذ ظهوره فى 2014. ففى العراق، على سبيل المثال، دمر التنظيم الإرهابى حوالى 28 مبنى تاريخيا، كما سرق وهرب وباع قطعا تاريخية عبر السوق السوداء لتمويل عملياته. ولا ينسى أحد مشاهد تدمير آثار تدمر بالمتفجرات والجرافات بمحافظة حمص السورية. فكتائب «التسوية» الداعشية استهدفت الإبادة الثقافية، والغريب أن حتى المساجد لم تسلم من يد الإرهاب الغاشمة، فمسجد النورى الذى وقف أبو بكر البغدادى ليعلن منه خطبته الشهيرة حول إعلان الخلافة تم تدميره فى 2017. مشاهد لن ينساها التاريخ، ولن تنمحى من ذاكرته، عندما شاهد الملايين حول العالم عبر الشاشات قيام عناصر حركة طالبان بنسف تمثالى بوذا فى باميان الأفغانية باعتبارهما مخالفين للشريعة. وفى الهند، كان مسجد بابرى ضحية لما سماه ناريندا مودى رئيس الوزراء الهندى «الهند الجديدة»، فقد انتصر لناخبيه من الأغلبية الهندوس ضد الأقلية المسلمة، وأصدرت المحكمة العليا العام الماضى قرارا بتحويل المسجد إلى معبد هندوسى لرام، وعلل مودى هدم المسجد، الذى يعود تاريخه إلى عام 1527، وبناء المعبد بأن الهنود «عائلة واحدة» ولا داعى للجدل. .
رابط دائم: