رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الصندوق

شوقى عقل

استيقظ على دوى انفجارات عنيفة هزت غرفته الخشبية.

فى البيوت القريبة أضيئت الأنوار وفتحت بعض النوافذ. خرج وتطلع حوله. رأى حُمرة حرائق متفرقة فى الجهة المقابلة لضوء الشمس البازغ. مرقت طائرات فى السماء، انقضت إحداها ثم علت ثانية وأعقبها فرقعةٌ هائلة.

تساءل مندهشًا هل وصلت إسرائيل إلى هنا؟

هدأ صوت الانفجارات ثم توقف تمامًا. ظلّت الطائرات تجوب السماء البيضاء ثم تغيب فى الأفق. صلبانٌ فضية صغيرة لامعة، يصله هدير محركاتها بعد قليل. الساعة لم تتجاوز الرابعة صباحًا. ملأت الشمس السماء بسرعة كعادتها فى صيف الكويت اللاهب.

صعد إلى أعلى مئذنة مسجد المدرسة، المبانى المحيطة على مدى البصر لا ترتفع أكثر من طابقين. رأى سحابةً كثيفةً من الدخان الأسود بعيدًا. علا فجأة صوتُ هديرٍ مفزعٍ لمحرك طائرة مرّتْ قريبة ومنخفضة، اهتزت المئذنة، نزل مسرعًا.

ما الذى جاء بالحرب للكويت؟؟ لم يمض على حضوره من مصر شهران، دفع ثمانمائة دينار ثمنًا لتأشيرة العمل. المرتب يذهب معظمه لسداد دينه، ثمن التأشيرة وتذكرة الطائرة، القليل الباقى لمصروف العيال ومصاريفه الشخصية. حرب ووقف حال ومازال الدين لم يسدد!!

مَر الوقت وساد الهدوء ولم يأتِ أحد من العمّال أو مقاولى الباطن.

أشعل سيجارة. علبة السجائر تكفيه خمسة أيام، أهمها سيجارة ما قبل النوم فى الفراش! أصعب وقتٍ فى اليوم. وحشه العيال! حين قال للصغيرة إنه مسافر ليأتى لها بلعبة وفستان، ردّت بأنها لا تريد الفستان بل تريده هو! بكت أم العيال فنهرها ثم بكى هو الآخر. قالوا له حين جاء إن أيام الغربة الأولى صعبة، بعد أسبوع أو أسبوعين سيخف ألم الفراق وسيتعود عليها، أخبره بلدياته وهو يسحب إبهامه من بين أسنانه المنطبقة: كلنا عدينا كدهوه! لكنها ظلّت صعبة! يشتاق للبنت الصغيرة التى جاءت بعد أن كبر. قال لأهل البلد ضاحكا: «أصلها كانت تايهة ولقيناها».

فى التاسعة جاء المهندس، قال بانفعال:

ـ الحرب بدأت يا حاج على.

هى إسرائيل مالها ومال الكويت؟!

ضحك المهندس مندهشًا، وقال:

ده صدّام يا شيخ على، الله يكرمك!

عاوز إيه؟

بيقول إن الكويت بتسرق بترول العراق.

وإحنا حانعمل إيه؟

نستنى لغاية ما نشوف إيه اللى حيحصل.

التأشيرة مدتها سنتان، لم يمر منها إلا شهران! يعود بعدها لـ «كوم الغريب».

تساءل ثانيةً بقلق:

ـ طيب هما لو جم وحبوا يا خدوا الحاجة اللى فى المخزن أقول لهم إيه؟

ـ قول لهم إنك غفير المشروع ودى عُهدتك.

ـ دول أكتر من ميت جهاز تكييف جديدة، استلمتها ووقعت على الكشف.

صمت قليلاً، ثم قال:

أعمل لك شاي؟

روح افطر، نشرب شاى بعدها.

يأكل وجبتين فقط فى اليوم، يشترى السمك من الصيادين بعد أن ينتهى السوق، يبيعونه بربع الثمن. عنده ما يكفيه، زجاجة زيت وخمسة كيلو رز مع السمك سيكفيانه الشهر. الشاى والسكر توفره الشركة. اختار أن يعمل غفيرًا ليكون وحده، لو بات دون عشاء فلن يعرف أحد.

خَفّتْ حركة الطائرات، توقف صوت إطلاق النار. من حين لآخر كانت دبابة بعيدة تطلق مدفعها، فتبدد السكون. المهندس فى حجرته يستمع إلى راديو صغير. عاد حاملاً الشاى، أشار المهندس إلى مقعد بجوار المكتب:

ـ اتفضل يا حاج.

تساءل علي:

ـ طيب والشغل على كده حايمشى إزاى؟

ابتسم المهندس:

ـ يا حاج الدنيا مولعة وإنت دماغك فى الشغل؟؟

ـ يعنى الشركة حاتقفل؟

- المهم إن إحنا نطلع من هنا بالسلامة.

سأل:

- والشركة حاتصرف لنا المعاشات؟

نظر إليه المهندس قليلاً، ثم قال:

ـ ربنا يسهل!.

قام بدورةٍ حول سور المدرسة. الملاعب محاطة بسورٍ من الشَبَك المعدنى، يفصلها عن بقية المدرسة بينما يلاصق سورها الخرسانى الخارجى بعض «الفلل». حين عاد كان المهندس قد غادر. فى صباح اليوم التالى وهو يقوم بدورته المعتادة لاحظ أن رُزمة غريبة الشكل ملقاة أسفل السور بجوار أحد البيوت. ذهب إلى هناك فوجد كيسًا من البلاستك الأسود بداخله صندوقٌ صغير محاط بشريطٍ لاصق عريض من كل الجهات. الصندوق ثقيلٌ رغم صغر حجمه. عاد به إلى غرفته. أدار سن السكين حول أطراف الصندوق حتى فتح الغطاء. وجد بداخله رُزمًا من النقود مصفوفة بعناية، لا يقل عددها عن أربعين رُزمة.

بينما ملأ الباقى حلى ذهبية ثقيلة موضوعة فى كيس من القطيفة الحمراء الداكنة! وقف «على» ينظر مأخوذًا إلى الثروة الكبيرة التى وجدها. لا يدرى ماذا سيفعل. فكّر (لازم ليها صاحب). جلس على الفراش وأمامه الصندوق وكوم الحُلى يُفكّر.

قام بعد قليل وذهب إلى خلف مبنى الفصول، خبّأ الصندوق بعناية داخل كوم من الرمال بعد أن تأكد أن لا أحد يراقبه. بَعْثَر فوق الكوم بضع قطعٍ من أخشاب قديمة. عاد إلى غرفته. تكررت دوراته حول المبنى، يمر بكوم الرمال دون أن ينظر إليه. ظل فى فراشه يفكّر، لعلها سقطت من أحد الهاربين، لن يعود ليسأل عنها. أرسلها له الله العالم بحاله! فى اليوم التالى استيقظ مبكرًا وضوء النهار لايزال شاحبًا. ذهب إلى كوم الرمل. تطلّع حوله ثم حفر حتى وجد الصندوق، أمسك به قليلاً ساهِمًا ثم أعاده إلى مكانه. لم يبارح خياله مشهد الرُزم المضغوطة داخل الصندوق، ماذا يمكنه أن يفعل بها؟! يبنى بيتًا من الخرسانة والطوب الأحمر كما بقية بيوت الكفر بدل بيته الطينى القديم المهدم الملئ بالثعابين؟ يشترى أرضًا ويربى فيها مواشى ويبيعها؟ سيعيد لزوجته مصاغها الذى باعته عندما تزوجت ابنتهما الكبيرة ويزوّد عليه، يُزوّج بدرية ومحمود ويُؤمِن مستقبل الصغيرة بعده! يعيش بقية حياته فى نعيمٍ بما رزقه الله فى الصندوق.

تعدت درجة الحرارة الخمسين فى الظل، الدرجة التى يقف العمل فيها. الشمس ترسل شواظها الحارقة منذ لحظة سطوعها فى منتصف الساعة الرابعة فجرًا، لكنها لم تمنعه من المرور المرة تلو الأخرى على كوم الرمل الثمين.

فى الساعة العاشرة سمع صوت دقٍ على باب الموقع المعدنى. رأى رجلاً يرتدى الجلباب الكويتى الأبيض ومعه امرأة ترتدى عباءة سوداء. أحس بالانقباض.

فتح الباب متسائلاً، ألقى الرجل عليه التحية، قال:

ـ إحنا رمينا صندوقا عند السور، نبتغيه!

تساءل بصوت جاف:

ـ الصندوق فيه إيه؟

ـ إنت ما عليك، هاته وإنت ليك البقشيش.

رد بغضب:

ـ لازم توصفه وتقول فيه إيه وإلا مش حاديهلك!

وصف الرجل بدقة الصندوق من الخارج. تساءل على:

ـ ومن جوه؟

تبين له أن الصندوق ملك الرجل. نظر إليه وإلى المرأة محتارًا. ذهب إلى كوم الرمل اللاهب وعاد بالصندوق.

قال الرجل بنبرة قلقة:

ـ ليش فتحته؟

نظر إليه صامتًا.

جلس الرجل على الرصيف وَعَدّ رُزم النقود. بينما قَلّبت المرأة الحُلى الذهبية، ثم نظرت إلى رفيقها.

التفت إلى «علىٍ» مبتسمًا.

أخرج بحرصٍ ورقةً بعشرة دنانير من إحدى الرُزم، أعطاها له:

ـ مشكور، جزاك الله خيرًا!

أمسك على بالورقة صامتًا.

فى صباح اليوم التالى قَصَّ «على»، الذى لم يذق النوم فى الليلة الماضية، القصة كاملةً على المهندس. وصف له محتوى الصندوق، كمية الذهب والمجوهرات بداخله، الرُزم المضغوطة التى ملأت الصندوق. ثم قال:

ـ إدانى عشرة دنانير.

قال المهندس متعجبًا:

ـ تستاهل! كان المفروض يديك على الأقل عشرة فى المية من الفلوس والدهب، حقك بالقانون والشرع!

صمت المهندس قليلاً ثم أضاف:

ـ يعنى حوالى سبع أو تمن تلاف دينار، مرتب خمس سنين شغل!.

فى الأيام التالية لاحظ المهندس، الذى ملَّ من البقاء فى منزله وحيدًا؛ فأصبح يأتى إلى الموقع كل يوم، أن وجه «عليٍ» كبر سنوات.

أصبح يسير وكتفاه محنيان إلى الأمام. كان لا يدخل غرفته إلا ليأخذ جرعة ماء بارد وليبلل وجهه الذى اسودَّ من الحرارة، ثم يعود ثانية ليدور حول السور، داخل الملاعب وخارجها، داخل المدرسة وخارجها، دون أن يرفع بصره عن الأرض الخرسانية الرمادية الجرداء.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق