المسمى فى هذه الرواية دقيق جدا. فهو يوحى بحسم الحيرة وتحقيق فعل العبور من حال إلى حال. فرغم اختيار الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد فى روايته الأخيرة «العابرة»، الصادرة عن منشورات المتوسط، لتناول قضية شائكة قليلا ما تم تناولها روائيا، وهو ارتباك «الهوية الجنسية» وعمليات العبور من نوع إلى آخر، إلا أن تناوله بدأ بنقطة انطلاق، أقل صخبا من المتوقع، لقصة عبور لمياء، البطلة، إلى حمزة وهويته الذكورية.
فالقارئ سيجد أن الرواية منشطرة إلى قسمين، أولهما، يدور حول لمياء، ونظرتها لذاتها والآخرين وللسياق السياسى والاجتماعى الذى تعايشه بلادها عقب ثورة 25 يناير. ويتضح من هذا القسم أن جميع العناصر، من أفراد عائلة ومخالطين فى الجامعة وحتى بلد مرتبكة عند مفترق طرق، يعانون من ضبابية فى تحديد هويتهم. واللافت، أن الكاتب اختار أن تكون لمياء، صاحبة الأزمة الأوضح، قد حسمت أمرها فيما يخص تعريف هويتها.
فبخلاف بعض شذرات السرد و مرات «الفلاش باك» الذى تعتمده لمياء فى عرض مقدمات أزمتها، يبدو أنها تجاوزت المرحلة التقليدية لـ «الصراع الداخلي» لمن يعانى من ارتباك «الهوية الجنسية». وما يرتبط بهذا الصراع من مشاعر متأرجحة ما بين الشجاعة واليأس وما بين الإقبال والاكتئاب. لمياء عازمة أمرها، وتجد من عناصر الدعم لثورتها على سجن «الجسد الأنثوي» فى شخصيات مستغلة.
الذروة الفعلية فى النص، هى فى تصادم قناعة لمياء حول هويتها مع محيطها سواء من أفراد أسرة تقليدية يعانى الأبوان فيها من أشكال مختلفة لازدواجية الهوية والارتباك حول تحديد صورته. فالأم تقدس شعائرها الدينية ودورها العائلي، ولكنها منصرفة عن زوجها. والأب يراعى مشاعر زوجته، كما فعل عند قسمه كذبا بأنه انتخب الإخوان، ولكنه لا يتردد فى خوض علاقات نسائية.
ولكن عند تجاوز هذه العقبة وإتمام «العبور» الفعلى لتصبح لمياء،حمزة. يبقى العبور الكامل، والتمثل فى تهيئة محيط «العابرة» لتقبلها. ولكن يلاحظ أن الكاتب اختار أن يكون حسم الاعتراف العام بهوية حمزة (لمياء سابقا)، أهون وأسرع فلم يستغرق إلا أياما قليلة محملة بترصد الجيران ونظراتهم الفضولية. وحتى الصديق المقرب أو العريس المفترض، إحسان، وعموم الزملاء الجامعيين كانوا أكثر قبولا لهبوط حمزة عليهم، من إدارة أمن الجامعة. فرغم اتساق حمزة مع ذاته لأول مرة، والاعتراف العام من الجميع، والذى بالطبع يساعد فيه أن العبور كان إلى الذكورة، إلا أن السلطات الرسمية لا تعرف إلا الأوراق الرسمية التى استغرقت وقتا قبل أن تخص حمزة بعد أن كانت تخص لمياء.
ازدواجية أخرى تبرزها «العابرة»، فواقعة التعنيف والتنمر الفعلية التى يواجهها حمزة بعد العبور كانت بسبب الوثائق غير المحدثة، وليس بسبب الحالة الجديدة. الأزمة كانت فى توثيق الهوية، وليس فى حقيقتها، وتلك الأزمة ذاتها زجت بحمزة إلى محبس النساء. وهنا تأتى فكرة «الإدانة». فرغم القبول الواضح من جانب أغلب محاور محيط حمزة «لمياء سابقا»، ورغم الحملة التى شنها الأصدقاء للتعريف بحالته وإنقاذه من محبس النساء، بل من المحبس كله، إلا أن الإدانة الواضحة للازدواجية ما بين الأوراق المتاحة لتوثيق هوية لمياء، وما بين وجود حمزة ماحيا وجود لمياء، تعد إدانة وعرقلة لإنجاز حمزة فى إقناع أسرته ومحيطه بحقه وحريته فى العبور إلى هويته الجديدة.
الرواية تنتهى بإدانة حمزة لمحاكميه، وتوحد حضور محاكمته معه فى إدانة نمط «التحكم» الذى لا يتجاوز سطح الأمور إلى عمقها، وينشغل بالأمور الإجرائية فلا يمكنه مجاراة الأفراد فى القفزات التى حققها وعيهم وتعاطيهم مع القضايا الحاضرة. ففيما ينشغل هذا النمط من التحكم بمواجهة الازدواجية وفك اشتباك خيوطها كما فى حالة حمزة، إذا بالجمهور أكثر تفهما للحالة الاستثنائية التى تمثلها «العابرة»، وقبولا لها. حمزة يحكم بأنه سيغادر بلاده التى يعشقها، والحضور يدعون له باكين، أما القضاة، فيرفعون الجلسة للمداولة، وفى الأغلب ما ستكون المداولة من أصعب ما يكون.
رابط دائم: