رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

النافذة المغلقة

** ترجمة د.هويدا صالح للكاتب الأمريكى إمبروس بيرس (1842ـ 1914)**

فى عام 1830، و وعلى بعد بضعة أميال فقط من مدينة سينسيناتى الحالية، بولاية أوهايو، كانت هناك مساحات من الغابات الشاسعة التى لا نهاية لها تقريبا. المنطقة كلها أُنشئت بها مستوطنات استقر بها أهل الحدود، لكن العديد منهم غادروا المنطقة إلى مستوطنات بعيدة ناحية الغرب، بقى بعضهم ولم يغادروا إلى الغرب. ومن هؤلاء الباقين رجل كان من أوائل الذين وصلوا إلى منطقة الغابات. كان رجلا وحيدا، ووسط الغابات الضخمة أنشأ لنفسه منزلا خشبيا من جذوع الأشجار. بدا الرجل كجزء من ظلام وصمت الغابات التى تحيط به. لم يره أحد أبدا يبتسم أو يثرثر بكلمة لا لزوم لها.


كان الرجل يوفر احتياجاته اليومية البسيطة من بيع أو مقايضة جلود الحيوانات البرية فى المدينة التى تقع على حدود الغابة.

صنع لمنزله الخشبى بابا وحيدا. وفى الجدار المقابل للباب صنع نافذة. النافذة كانت مغطاة بألواح خشبية. لا أحد يتذكر أنه رأى تلك النافذة مفتوحة يوما، وليس السبب فى غلقها أن الرجل يكره ضوء النهار والهواء النقي؛ ففى أوقات نادرة رآه بعض الذين عاشوا فى الجوار يجلس على عتبة المنزل، يعرض جسده لأشعة الشمس. أتخيل أن بضعة أشخاص ممن عاصروه ويعيشون لليوم يعرفون سر تلك النافذة، لكننى لست منهم كما تري.



قيل إن اسم الرجل مرلوك. كان يبدو كمن بلغ السبعين من عمره، لكن فى الحقيقة كان عمره خمسين عاما. شيء آخر إلى جانب مرور السنين هو ما جعله يبدو فى تلك الشيخوخة الواضحة. شعره الطويل ولحيته يكسوهما البياض.عيونه الرمادية الغائرة وتبدو فاقدة للحياة، لا لمعة فيها. التجاعيد تغطى وجهه.كان طويلا، لكنه محنى كمن يحمل على كتفيه حملا ثقيلا.

أنا لا أعرفه، لكننى عرفت تلك التفاصيل من جدي.أخبرنى قصة الرجل حينما كنت صبيا. كان يعرفه حينما كان يعيش بجواره فى ذلك الوقت.

فى يوم من الأيام وُجِد مرلوك فى كوخه ميتا. لم يكن فى ذلك الوقت هناك أطباء شرعيون يكشفون أسباب الوفاة أو صحف تنشر أخبار الحوادث. وأفترض أنه مات ميتة طبيعية وإلا كان جدى قد أخبرنى وكنت تذكرت ما قال لي.

أعرف أن الجسد دُفِن قرب الكوخ، بجوار قبر زوجته التى توفيت قبله بسنوات طويلة، حتى أن الذاكرة الشعبية لا تكاد تذكر وجودها.

كان يمكن أن تكون هذه نهاية الفصل الأخير من تلك القصة الحقيقية لولا ما حدث بعد ذلك بسنوات.

بروح لا تعرف الخوف ذهبت إلى المكان. اقتربت من الكوخ. اقتربت أكثر بدرجة تكفى لإلقاء حجر نحوه، لكننى جريت خائفا من الشبح الذى تحفظ حكايته ذاكرة كل طفل فى المنطقة. لكن هناك فصلا سابقا يمكن أن أضيفه للحكاية التى حكاها لى جدي.

عندما بنى مرلوك كوخه كان شابا قويا وممتلئا بالأمل ووضع بثبات أول فأس فى إعداد المزرعة، و احتفظ بجانب الفأس ببندقية تحميه من المخاطر المحتملة.

تزوج من فتاة شابة كانت جديرة بحبه وإخلاصه ووفائه. شاركته مخاطر الحياة بروح محبة وقلب مضيء. والغريب أنه لا يوجد سجل رسمى حفظ اسمها أو أى تفاصيل عنها. أحب الرجل زوجته وعاشا سعيدين.

فى يوم ما عاد مرلوك من صيده فى أعماق الغابة، وجد زوجته مريضة. كانت تهذى من شدة الحمي. لم تكن فى حالة تسمح بتركها وحيدة، لكنه ذهب ليبحث عن مساعدة، وحين فقد الأمل فى العثور على طبيب عاد إليها، يرعاها حتى تسترد صحتها، لكن فى نهاية اليوم الثالث فقدت الوعي، ثم رحلت.

وقف يتأمل جسد زوجته فى ضوء النهار الخافت، ظلمة الليل تتسلل إلى الكوخ. أصلح شعرها المبعثر، ووضع لمسات من الزينة على وجهها الشاحب. كان يتصرف بشكل آلي، فعل كل ذلك دون تفكير، لكن بعناية وحذر شديدين. كأن كل شيء على ما يرام. كان يحاول أن يتيح لها فرصة أخيرة تبدو فيها جميلة وأنيقة.

لم يختبر مرلوك الحزن العميق قبلا. قلبه لا يتحمل كل هذا الألم. خياله غير قادر على فهم ما يحدث. يشعر بصدمة عنيفة, هو لا يدرك كيف سيواجه الحياة دونها.الحزن العميق يؤثر فى الناس بطرق مختلفة. الموت يدهمنا مثل ضربة سهم قاتلة. إنه يصدم مشاعرنا، ونكتشف معه أن الحياة المزيفة.

مما نعرفه عن رجل مثل مرلوك قد نحاول أن نتخيل تفاصيل القصة التى حكاها لى جدي.

حينما تأكد أنها ماتت كان لديه شعور كاف أن الموتى يجب أن يُجهزوا للدفن!

ارتكب أخطاء وهو يحاول أن ينفذ واجبه الخاص. لقد ارتكب هذه الأخطاء وهو يفعل أمرا فعله الناس مرارا وتكرار، لكنها المرة الأولى التى يواجه فيها الموت.

فوجئ أنه لم يبكِ.. شعر بالعار. من القسوة ألا نبكى على الموتى الذين يرحلون دوننا!

«غدا»!- قالها بصوت عالٍ- «أجهز التابوت وأحفر القبر؛ ثم سأفتقدها طويلا عندما تكون فى الجانب الآخر من الحياة، لكن الآن- إنها ميتة، بالطبع كل شيء على ما يرام- بالطبع يجب أن يكون كل شيء على ما يرام، بطريقة ما. الأشياء لا يمكن أن تكون سيئة كما تبدو».

فى بقايا ضوء النهار الذى بدأ يختفى وقف أمام جسد زوجته. أصلح شعرها المبعثر، ووضع لمسات من الزينة على وجهها الشاحب. كان يتصرف بشكل آلي، فعل كل ذلك دون تفكير، لكن بعناية وحذر شديدين. كأن كل شيء على ما يرام!. كان يحاول أن يتيح لها فرصة أخيرة تكون فيها جميلة وأنيقة. لم يختبر مرلوك الحزن العميق من قبل. قلبه لا يتحمل كل هذا الألم. خياله غير قادر على فهم ما يحدث. يشعر بصدمة عنيفة. كانت الصدمة أعنف من أن يتحملها. لم يعرف ما يحدث له فى تلك اللحظة، لكن تلك المعرفة ستأتى له لاحقا ولن تغادره أبدا. هو لا يدرك كيف سيواجه الحياة دونها .

يقال إن الحزن العميق يؤثر فى الناس بطرق مختلفة، لكنه الآن يواجه الموت!

الموت يدهمنا مثل ضربة سهم قاتلة. إنه يصدم مشاعرنا، ونكتشف معه أن الحياة مزيفة. إن الموت يأتى مثل ضربة أو عاصفة ساحقة.

أنهى مرلوك عمله كما ينبغي. جهز زوجته كما يليق بها، ثم غاص فى الكرسى المواجه للطاولة المسجى عليها الجثمان. لاحظ كيف بدا وجه زوجته أبيض فى ظلام الكوخ. وضع ذراعيه على حافة الطاولة، ثم وضع وجهه بينهما،، وغرق فى النوم. لم يعرف كم من الوقت مضى وهو على هذا الوضع.

ومن النافذة المفتوحة سمع صراخا عاليا، يشبه صراخ طفل تائه فى الغابة المظلمة، لكنه لم يتحرك. سمع البكاء الغريب يقترب أكثر. ربما يكون صوت الحيوانات البرية وربما يكون حلما. ظل مرلوك نائما.



بعد بضع ساعات استيقظ، رفع رأسه من بين ذراعيه واستمع بانتباه. لم يكن يعرف مصدر الصوت أو سببه. لم يدرك من أين أتى الصراخ. هناك فى الظلام الدامس كان الجسد ممددا، جسد زوجته ما زال مسجى .تذكر كل شيء،كأنه آت من حلم بعيد، لكنه لم يُصدم. فتح عينيه فى توتر ليري، لكنه لم يعرف أيضا ماذا حدث.

كانت حواسه كلها منتبهة، وأنفاسه تكاد تتوقف، ودمه يكاد يتجمد فى عروقه. لم يعرف من وماذا أيقظه، وأين هو!

فجأة الطاولة تهتز تحت ذراعيه. وفى الوقت نفسه سمع، أو تخيل أنه سمع، خطوة، خفيفة، ثم تلتها خطوة أخري. كانت الأصوات مثل الأقدام العارية التى تمشى على الأرض!

كان خائفا لدرجة أنه لم يملك القوة على البكاء أو التحرك. انتظر، وانتظر هناك فى الظلام. الخوف جعل اللحظات تمر عليه مثل قرون طويلة، الخوف كما يمكن أن يكون. حاول النطق باسم المرأة المسجاة أمامه، لكنه فشل. كما فشل فى أن يمد يده عبر الطاولة ليرى إن كان جسد زوجته ما يزال هناك. جف حلقه ولم يستطع الكلام. أطرافه باردة مثل الرصاص.

حينئذ شيء مرعب حدث. بدا الأمر كما لو أن جسدا ثقيلا ألقى على الطاولة، واندفع بقوة مرتطما بصدره. وفى نفس الوقت شعر بشيء ما وقع على الأرض، سمع الصوت جيدا. كان الاصطدام عنيفا جدا لدرجة أن المنزل الخشبى اهتز. وكان القتال مستمرا والأصوات متداخلة ومرتبكة لدرجة يستحيل وصفها.

رفع مرلوك قدميه من على الأرض وفقد السيطرة على حواسه. ألقى بذراعيه على الطاولة. لا شيء هناك! تحسس مرة أخري، ولا شيء هناك!

فى لحظة ما يمكن أن يتحول الخوف إلى جنون، والجنون يحرض على الفعل.

ومع عدم وجود خطة يمكن أن نتصرف مثل المجانين، مرلوك جرى بسرعة نحو الحائط. أتى بالبندقية، ثم ألقمها عدة طلقات، وبدأ فى إطلاقها دون هدف.

الأضواء المنبعثة من البندقية حولت ظلام الحجرة إلى ضوء ساطع.

رأى نمرا ضخما رهيبا يجر المرأة الميتة باتجاه النافذة. أسنان الحيوان المتوحش مثبتة فى حلق المرأة، ثم عمّ الظلام والصمت ثانية.

عندما استرد وعيه كانت الشمس قد ملأت المكان، وأصوات غناء الطيور تملأ الغابة.

كان الجسد ملقى قرب النافذة حينما تركه النمر وهرب بعد أن أفزعه ضوء وصوت البندقية. كانت ملابسها ممزقة، وشعرها الطويل مشعث. ذرعاها وساقاها ألقيا بجانبها. وبركة من الدم تتدفق من حلقها الممزق بشكل مروع. والشريط الذى يربط المعصمين كان ممزقا، رغم ذلك، فيداها كانتا مغلقتين بإحكام. ما يثير الحيرة أن قطعة من أذن الحيوان كانت بين أسنان المرأة.

>>.... كتبت هذه القصة عام1891

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق