السطور التالية هى آخر ما كتب سيد داود، أحد أبرز «أصدقاء الأهرام» على مدى نحو أربعة عقود، وهى أيضا الشىء الوحيد الباقى من مقتنيات بيته الذى أتت عليه النيران فى حريق مروع، كان «داود» نفسه أكبر ضحاياه فى ٢٧ يونيو الماضى، قبل أن ترسلها إلينا أسرته للنشر فى الذكرى الـ٧٨ لميلاده، التى توافق اليوم. السطور التالية تبدو أقرب ما تكون إلى مرثية لعمر مديد، لم يخل من تجربة إنسانية بالغة الثراء والبطولات.
الفاتحة على روحى
> بقلم ــ سيد داود
عندما تقرأ هذه السطور أستأذنك أن تقرأ الفاتحة على روحى. ربما تكون هذه هى المرة الأولى التى تقرأ فيها لرجل ينعى نفسه، ولعلك سوف تسأل نفسك هذا السؤال المحير: لماذا أقدمت على كتابة هذه السطور قبل أن أموت؟!، لتقرأها أنت بعد وفاتى.
دعنى أولا أحكى لكم قصتى من البداية، فقد عاصرت الملكية، ذلك أننى عندما قامت ثورة يوليو 1952 لم يكن عمرى يزيد وقتها على عشر سنوات، لكنى كنت طفلا بدرجة «رجل»، سافرت لأتعلم بعيدا عن قريتى، فركبت القطار، وهربت من الكمسارى، حتى لا أدفع «قرش تعريفة»، كان هو ثمن تذكرة القطار وقتها، ولم أكن وحدى الذى كان يفعل ذلك، فكلنا كنا نهرب، بينما كان كبارنا يعقدون صفقات مع الكمسارى، يحصل بمقتضاها على قرشين صاغ يدسها فى جيبه مقابل أن يسمح بالسفر لكل أبناء القرية، وعددنا لم يكن يقل عن خمسة عشر طالبا. ركبت المراجيح البلدى، وامتطيت الحمير والجمال، وقفزت فوق ظهر الفرس، تماما مثلما ركبت «الكارو» التى كنا نستخدمها فى تنقلاتنا عندما كنا نذهب للعب مع أقراننا فى البلاد المجاورة.
فى الرابعة عشرة من عمرى، عاصرت العدوان الثلاثى على مصر، واستقبلت فى بلدتنا المهاجرين القادمين من بورسعيد، حيث وقفت على محطة القطار مثل غيرى من أبناء القرية، بعد أن أغلقت المدارس أبوابها، نحيى المهاجرين، ونطلب منهم أن يحلوا ضيوفا عندنا فى البيت.
عاصرت ملكا وأربع رؤساء، لكن عبد الناصر كان الزعيم الذى أحببته، رأيته أمامى ذات مرة على بعد مترين عندما جاء إلى المنزلة دقهلية فى 1958، وكنت وقتها طالبا فى الصف الأول الثانوى وعضوا فى الشرطة العسكرية المدرسية، كان مطلوبا منى وقتها أن أقف أمام المنصة التى سوف يلقى من فوقها خطابه فى إستاد المنزلة، فشاهدت عن قرب المذيع المعروف أحمد فراج وهو يقدم الزعيم للجماهير، فوقفت مبهورا بـ»كاريزما ناصر»، وحلمت بأن أكون مذيعا أو حتى مدرسا للألعاب، حيث عشت أحب الرياضة وكل ما هو رياضى، ولأننى كنت أحب الرياضة انضممت لاعبا فى فريق بلدى، وشاركت فى تأسيس نادى النصر، وعملت فيه مشرفا رياضيا ومدربا لفريق الكرة، وقد أسميته «النصر»، لأنه تأسس بعد العدوان الثلاثى على مصر فى 1956، عندما انتصرنا سياسيا على فرنسا وبريطانيا وإسرائيل.
التحقت خلال فترة تجنيدى بسلاح المدفعية، وفى هذا السلاح عشت أحلى الذكريات، فعرفت أصدقاء كثر، ومارست هوايتى فى لعب كرة القدم، حتى إننى كنت مطلوبا فى «اتحاد الجيش»، لكننى رفضت، حيث كان اللاعبون ينزلون للمبيت كل يوم، بينما أنا غريب فى القاهرة، وراتب الجندى فى ذلك الوقت لم يكن يزيد على 96 قرشا.
عاصرت افتتاح التليفزيون المصرى فى ١٩٦٠، وشاهدت كل المسرحيات التى بثها التليفزيون فى ساعات إرساله الأولى، واستمتعت بكل نجومه بدءا من فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولى، وليس انتهاء بمحمد عوض ومحمد صبحى، مرورا بكل فطاحل المسرح المصرى الذين شاهدت معظم أعمالهم على خشبة المسرح مثلما شاهدت نجوم الكرة فى الملاعب، بدءا من صالح سليم وطارق سليم والفناجيلى، وليس انتهاء بالشربينى وعادل هيكل وعبدالجليل حميدة وأبو غيدة، وكل لاعبى الأهلى القدامى فى الخمسينيات والستينيات، تابعتهم جميعا فى الملاعب مثلما تابعت كل لاعبى الزمالك القدامى أيضا فى مبارياتهم مع الأهلى على ملعبه فى الجزيرة.
لعبت فى فريق اللاسلكى، وسافرت إلى معظم عواصم المحافظات. كما لعبت مع منتخب الهيئة وحصلنا على دورى الوزارات، ومارست العمل السياسى فى منظمة الشباب والاتحاد الاشتراكى، لكنى طلقت كل ذلك بعد وفاة عبدالناصر فى سبتمبر 70، وتفرغت لتربية أولادى.
سافرت للعمل بجدة فى المملكة العربية السعودية، وهناك عشت ثلاث سنوات بصحبة زوجتى والأولاد، عشتهم بكرامة قبل أن أعود مرفوع الرأس، بعد أن تقدمت باستقالتي، ولم أرضخ لرجاءات رؤسائى السعوديين الذين حاولوا كثيرا أن يثنونى عن طلبى، لكنى رفضت، فأولادى كانوا قد بدأوا يكبرون خارج الوطن. اعترف أن الله كان كريما معى دائما فى فترة الشباب، وأنه حفظنى من أى انحراف، لعلها كانت دعوات أمى التى كانت دائما ما تقول لى :»روح إلهى يحبب فيك خلقه»، وقد استمرت دعواتها تحيطنى حتى خرجت على المعاش فى يوليو 2002، يحيطنى حب الناس ووداعهم المؤثر.
كنت أعيش طيلة حياتى على دعوات أمى التى كانت تحبنى وتدعو لى دائما بالصحة والستر، وتقول لى دائما وهى تبتسم: «روح إلهى تلاقى صرة فلوس»، فعشت مستورا ويشهد الله أننى لم ألجأ لأحد من أجل الالتحاق بأى وظيفة، بل كانت سمعتى وجديتى تسبقانى فى كل عمل، ويشهد الله أننى كنت مخلصا لكل من عملت معهم، فالإخلاص وعدم إذاعة أسرار العمل هما سر النجاح.
عشت انتكاسات وانتصارات مصر، فربطت الحزام ووقفت فى طابور الجمعية من أجل «جوز فراخ» أو كيلو سكر أو صابونة أو زجاجة زيت، وعانيت فى طوابير العيش، ثم عشت عصر الانفتاح، عشت أجواء ثورة يوليو 1952 وليالى ثورة 25 يناير2011، تعبت وفرحت، وسهرت وعشت السهاد مثلما عشت الانكسار والانتصار، أيام الذل والهوان، وحياة البغددة.
صادقت وكتبت مع كوكبة من صحفيى «الأهرام»: الأساتذة صلاح جلال وعبدالوهاب مطاوع وأبو السعود إبراهيم وغيرهم، وصادقت كبار الفنانين مثل محمد سليمة، وناجى كامل ومكرم حنين وأنطون ألبير وغيرهم، وألفت ما يقرب من عشرة كتب، تصدرت مكتبات معرض الكتاب السنوى، لبست القبقاب والحذاء «الكلاركس»، سبحت فى الترعة والبحر الصغير، ثم فى الساحل الشمالى والمياه الفيروزية بمطروح وشرم الشيخ والغردقة بعدما عوضنى الله أيام الحرمان، ووهبنى الأولاد والأحفاد والزوجة الصالحة.
الدوام لله وحده، لذا فإننى أسألك أن تسامحنى إن كنت قد أسأت لك يوما، فقد يكون ذلك دون قصد، وأن تقرأ الفاتحة على روحى، فربما أكون قد أسعدتك يوما بكلمة مقروءة أو بسمة من خلال كلمة صادقة، حيث كنت لا أخاف من أحد غير الله الذى كان أمامى دائما فى كل تصرفاتى، لذا فإننى أسألك بقلب واثق أن تقرأ الفاتحة مطمئنا على روح رجل لم يركع طيلة عمره إلا للواحد القهار.
رابط دائم: