نشر لى بريد الأهرام كلمة بعنوان «كورونا ولغتنا المعاصرة» تناولت فيها قضية مشكلات لغتنا الأم فى ظل ظروف جائحة كورونا، وفى سياق تعليمها للدارسين عبر قنوات - التعليم عن بُعد - ووسائل الاتصالات الحديثة وشبكات الحاسوب الالكترونية، وقلت إن أكثر ما يهدد تدريس لغتنا الأم فى مدارسنا أنها تسير عبر مناهج لا تتعامل بفكر «المهارة والمعاصرة»| فى تعليم اللغة بسياق يقربها من قلوب الأجيال قبل عقولها، ويوقظ فى نفوسها الحس الأدبى والفنى والإنسانى والقيمي، فالنصوص الدراسية، وطرق اختيارها فى مناهجنا لا تحرك النفوس، ولا تستثير الإحساس ولا تتناسب مع الأعمار - وهذا هو الأخطر - بالإضافة إلى صعوبتها فى كثير من الأحيان على مستوى العقلية الطلابية الذواقة، برغم أنه يفترض أن تكون النصوص الأدبية الدراسية هى المفتاح الذى تنطلق منه دراسة اللغة وفنونها، فمن خلالها يمكن أن تُدرَّس علوم النحو والصرف والبلاغة ومهارات التعبير والتحليل النصي، بدلا من أن تكون دراسة اللغة العربية فى مناهجنا التعليمية متفرعة ومشتتة عبر جزر متباينة ومتباعدة تدرس كل فن على حدة، ولا تربط بينها، ولا توحد نغماتها، وهذا الكلام يمكن أن يقال أيضًا فى مناهج تعليم اللغات الأخرى، ومنها اللغة الانجليزية بمناهجنا التعليمية.. أقول هذا بمناسبة ما لمسته ورأيته على وجه ابنتى طالبة الثانوية العامة بعد عودتها من امتحان اللغة الانجليزية الأسبوع الماضي، ومدى امتعاضها ونفورها منه، وبسؤالها عن هذا الامتعاض الغريب وغير المعتاد منها، قالت: هل تتخيل يا أبى ما الموضوع الرئيسى لاختبار الثانوية العامة هذا العام؟، والذى يمثل النص الأساسى للاختبار، فقلت لها بالتأكيد أنه يدور حول الجائحة التى تمر بنا ، ودور الجيش الأبيض العظيم فى مواجهتها، أو التحديات التى تواجه مصر من كل جانب، أوعن مشكلة من مشكلاتنا الأخلاقية التى يعانيها المجتمع المصرى الآن أو مشكلاته الاقتصادية ... إلخ ، فما كان من ابنتى إلا أن حلت عقدة امتعاضها بضحكة خفيفة ثم قالت: إن النص الرئيسى لاختبار الثانوية العامة هذا العام يدور حول موضوع (تسليك الأسنان) لاحظ – وليس نظافتها كمقصد مباشر – ومدى خطورتها إن لم ُتسلك بصفة عامة، ومدى تأثيرها على وظائف القلب والكبد والكُلى، وهذا الموضوع ليس صعبًا ولا معقدًا، ولكن الصعوبة كما قالت ابنتى فى فكرة اختيار النص، ومدى طواعيته وقبوله وتوقعه وتناسبه مع ظروفنا الحالية، وحركة الفكر فى شمولياتها .
إن القضية الغائبة لدى كثيرين من خبرائنا فى التربية والتعليم هى قضية التعامل مع اللغة بوجوهها القيمية والإنسانية والفكرية والفنية والجمالية، وليس التعامل معها كمادة تعليمية مطلوب من الطالب فيها أن يدرك خطوطها التأسيسية العريضة كالرياضيات والعلوم، أو عناصرها النحوية والبلاغية والصرفية فقط ، فالقيمة الحقيقية للغة فى رسالتها المتكاملة وتكوينها العام وبنيانها المشدود كجزء لا يتجزأ، ومن ثم وجب أن يتعلمها الطالب عبر عبقرية نصها فكرًا وفنًا وبناءً فى وحدة واحدة، وهذا ما يدفعنا دائمًا لأن ننادى بأن تعليم اللغة لا يمكن أن يؤدى مهمته أو واجبه مادام باقيا عبر جزره المتباعدة والمتفرقة لا يجمعها شاطئ واحد، أو مرسى مقصود وشاسع .
فإذا كان النص الرئيسى فى اختبار اللغة الانجليزية للثانوية العامة هذا العام ـ وهى مرحلة إدراكية وفهمية عالية ـ قد جاء حول موضوع (تسليك الأسنان) فإنه من الواجب أن يدرك خبراء كل لغة أن أهم عناصر نجاتها هو تسليكها من عيوب التعامل معها باعتبارها مادة تعليمية عادية ومباشرة وقياسية، وأن قيمتها الحقيقية فى قراءة وجوه نصوصها بما تحمله من قيم وفكر ورسالة وجمال وإنسانية وواقعية وبنيان متكامل، والتعامل معها على هذا الأساس، وزراعة هذا الفكر فى الأجيال القادمة حتى لا تخرج علينا أجيال لا تعرف من وجوه اللغة أى جمال أو معنى أو إحساس .
د . بهاء حسب الله
كلية الآداب ــ جامعة حلوان
رابط دائم: