أسكن بالطابق الثالث فى بناية ذات أربعة طوابق وكنت أحب غرفتي، وبل وأعشقها برغم أثاثها البسيط جدا.. سرير ودولاب وكرسى وسجادة بالأرض، وإضاءة كافية بالسقف، كنت أحب الجلوس فيها ولوقت طويل ودون ملل أو ضجر.
وبرغم أن لى مسكنا آخر فى مدينة أخرى، إلا أن هذه الغرفة كانت تجذبنى دائمًا فى حياتى التى أعيشها بمفردى داخلها.
كنت أتساءل دومًا: لماذا أحب غرفتى هذا الحب الكبير؟
وعندما بحثت عن السبب وجدت ضالتي!.
فى غرفتى نافذة مستطيلة ذات ضلفة زجاجية واحدة، ومن خلالها يبدو المنظر رائعًا.
منها أرى امتداد السماء الصافية فى خلفية المشهد الجميل والشمس تنيرها بضياء خلاب كل صباح، وهناك شجرة كافور ضخمة وعالية حتى أن فروعها تصل إلى الطابق الرابع، ولكن هنا من النافذة أرى جزءًا يتمايل ويتراقص من هذه الفروع مع حركة الهواء.. إنه فرع ممتد من الشجرة ومنه تخرج فروع أصغر، وتتدلى منها الأوراق الخضراء المستطيلة التى مع حركة الهواء تصدر أصواتًا عديدة، وكأنها تتنفس الهواء عندما يمر بينها.
ويكتمل المشهد بالعصافير المنطلقة والسابحة فى الهواء، تقف حينًا على فروع الشجرة، وحينًا آخر تتحرك وتمشى وتصدر أصواتها العذبة فى تناغم بديع جدا،كأنى أستمع إلى لحن موسيقى رقيق، ولا يوجد غير أصواتها التى أشعر أنها تتكلم مع بعضها ربما بلغة تفوق معرفتنا.
والجميل أنه لا توجد أى أصوات بشرية... السماء صافية والهواء نقى والشمس ساطعة والعصافير تعزف ألحانها وهى بفرح غامر وسلام تتحرك وتطير ولا تحمل هما أو قلقًا لأى شيء.
فى كل صباح أجلس ساكنًا أمام هذه النافذة التى أشعر أن الله يتطلع إلى من خلالها، وكنت دائما أتساءل عن سر هذا الجمال المدهش الذى أراه من خلال النافذة المحدودة فى مساحتها.
فى كل صباح أرى أفكارى وحياتى من خلال هذه النافذة المحيرة، كنت أرى حبّا من خلالها يتدفق من السماء والشمس والشجرة والعصافير والأصوات والهواء والنور، إنها لوحة بديعة.
لقد وجدت هذه النافذة وكأنها تحدثنى عن حياتى وأيام عمرى وأنا الآن فى نهاية العقد السابع من العمر وعرفت نافذتى منذ العقد الخامس، ولم أكن متلفتًا إليها إلا الآن.
حركة فروع الشجرة أمامى حركة دائمة تمثل حركة أيام عمرى ومراحل الحياة، أحيانًا تتحرك بحركات خفيفة وفى أحيان أخرى تكون شديدة، وهكذا مرت حياتى مراحل وأياما هادئة ساكنة فى كثير من الأحيان، ولكن كانت هناك مواقف شديدة وربما مؤلمة وربما قاسية، هل هى صدمات القدر عندما نفقد أحباء لنا أو نعانى ألمًا وتعبًا من آخرين؟ أو نجتاز أمراضا وآلاما جسدية مبرحة ونحتاج جراحات خطيرة لعلاجها ؟؟.
وكأن النافذة تحكى وتصور مرور السنوات بحلوها ومرها، لأن من الفروع تتدلى الأوراق المميزة لشجرة الكافور ذات الرائحة العطرية المعروفة، وأتخيل أن هذه الأوراق تمثل البشر الذين عرفتهم فى مشوار الحياة الطويل، سواء أقرباء أو أحباء أو حتى عابرين فى حياتي، لا معنى للحياة بدون البشر، ولا معنى للحياة بدون الحب الذى يجعل هذه الأوراق مترابطة على فرع الشجرة فى أنسجام عجيب.
الحب ذلك الإحساس الجميل الذى يشعر به الإنسان من خلال الآخرين، لقد أحببت معظم الذين عرفتهم، أسرتي، أصدقائي، زملائي، معارفي، زواري... وإن تفاوتت مشاعر الحب من إنسان إلى آخر.
إننى أشعر بالحب جدا فى علاقاتى الإنسانية... أشعر أننى أحمل قلبًا كبيرًا جدًا وأكاد أصرخ فى قلبى تجاه كل أحد «أنا بحبك» أقولها عن أحساس وشعور عميق فى داخلي، لا أذكر يومًا أننى خاصمت إنسانًا أو سمحت للكراهية أن تطرق باب قلبي؟.
وعندما وضعتنى العناية الإلهية فى بداية العقد السابع من عمرى أن أكون مسئولا كبيرًا، شعرت أن طاقة الحب تتدفق بالحقيقة مثل تدفق ينبوع المياه العذبة نحو الكل وبدون استثناء حتى مع الذين أخذوا موقفًا منى أو عادونى أو أصدروا نقدًا وحكمًا على قراراتي.
إن اصعب المواقف كانت القساوة التى أجدها عند بعضهم وكأن قلبهم بلا رحمة بلا إحساس بلا حب، وأتعجب كيف يوجد أناس بلا حب فى حقل عمل مؤهله الأول الحب. إن الأوراق المتدلية من فروع الشجر تروح وتجئ مع حركة الريح، ويأتى وقت الخريف ويتساقط بعضها جافا بصفرة الموت، لكن الحياة تستمر... لقد فقدت أعزاء وتألمت لغيابهم، لكن مازال حبهم فى قلبي.
أما العصافير التى تأتى أحيانًا وتقف على فروع الشجرة وأراها منطلقة فرحة وتتحرك فى إنسيابية مذهلة يعجز عنها أهل الأرض، فأظن أن كل مرة يأتى عصفور أمام النافذة أنه يحمل رسالة خاصة من الله لي، فى حركته الرشيقة أشعر بيد الله الحانية، وفى صوته الرقيق أشعر بصوت الله الحنون، وفى مجيئه وذهابه أشعر بدفقات الحياة المتجددة.
كثيرًا ما عمل الله معى بشكل مذهل... فى طفولتى لم أكن أدرى تمامًا ما يحدث معى من نجاحات وإخفاقات... أتذكر آلام مرض والدى ومعاناة والدتي، ومسيرة دراستى وطبيعة عملي، وهدف حياتي، وعندما أنظر إلى الماضى أتعجب، أندهش كيف مرت حياتى هكذا محاطًا بيد الله القوية، وكأنى ذلك العصفور الذى يتحرك بلا خوف ولا هم بل فى حرية وانطلاق وفرح.
كانت زقزقة العصافير بمثابة أصوات تسبيح وصلاة وبهجة واطمئنان.... وهو شعور متبادل بينهم وبيني.
إنها الحقيقة لوحة جمالية مدهشة وسط الهدوء والسكون وتطلعات الحياة من خلال هذه النافذة التى تجعلنى أسبح فى الماضي، وأعيش الحاضر وأتطلع إلى المستقبل فى سلام واطمئنان.
أشعر أحيانًا أن هذه النافذة مصدر سعادتى وبهجة قلبى بل إننى أكاد أسميها «نافذة رجاء» لأنه كما تعصف بى الحياة فى مواقف صعبة، وأحيانًا مؤلمة، أعود إلى «صديقتي» لأنال قسطًا من الرجاء عالمًا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير... إن تفاصيل هذه النافذة، وما أراه من خلالها لهو يعنى لى أن الحياة حلوة، وأنها بخير برغم الشرور التى نجدها أو نسمع عنها... وأشعر أن مشاعرى تجاه صديقتى هى مشاعر راحة وسلام.
هذه النافذة ترسم لوحة حياتى الجميلة.
رابط دائم: