بدأ تطبيق انستجرام كمنصة لتبادل الصور ونشرها من خلال الإنترنت، وسرعان ما تحول إلى أكثر التطبيقات الإلكترونية تأثيرا فى وقتنا الحاضر. ومؤخرا، صدر كتاب « بلا فلتر .. القصة من الداخل: كيف غير انستجرام أوساط الأعمال، وحياة المشاهير، وثقافتنا» للصحفية سارة فراير يحكى قصة الكفاح التى أوصلته إلى هذه المنزلة، والطباع الغريبة لمبتكريه أصحاب الفضل فى نجاحه. تناولت صحيفة الجارديان الكتاب، وأفردت مساحة معتبرة له، وتنقل السطور التالية جانبا منها.
سلال القمامة
فى صباح خريفى من عام 2015 طرأ تغير طفيف على مكاتب انستجرام فى ولاية كاليفورنيا، عندما وصل العاملون مبكرا كالمعتاد ليكتشفوا اختفاء سلال القمامة من تحت مكاتبهم !. وكانت الإدارة قد وضعت السلال لضمان الكفاءة فى العمل، وعدم السماح للعاملين بالوقوف فى أماكنهم و«التنشين» على سلال بعيدة بغرض التخلص من نفاياتهم الخفيفة، بعد الإجهاز على الوجبات المجانية التى تقدمها الشركة. أدرك العاملون يومها أن السلال كانت من بنات أفكار فيسبوك بعد شرائها لانستجرام فى عام 2012 مقابل مليار دولار. فماذا حدث ؟.
كره أحد مؤسسى التطبيق ويدعى كيفن سيستروم منظر هذه السلال، وصناديق الورق المقوى التى يستعملها العاملون عادة لحفظ الأوراق والمكاتبات. ليس هذا فحسب، بل إنه يمقت بطبعه تلك البالونات المترهلة المتعارف عليها فى مناسبات أعياد الميلاد. وحتى يوضح المسألة وينهى اللغط، قال سيستروم إن مكان العمل يجب أن يعكس طبيعة التطبيق ذاته، وبالتالى يجب أن يبقى جميلا بسيطا.
مرشحات الصور
تتبعت سارة فراير، محررة الشئون التكنولوجية، قصة صعود انستجرام من البداية وألفت كتابا بعنوان « بلا فلتر ..القصة من الداخل: كيف غير انستجرام أوساط الأعمال، وحياة المشاهير، وثقافتنا». وتوضح سارة أن هذه القصة العابرة مهمة لثلاثة أسباب: أولا لأنها تظهر مدى حساسية سيستروم تجاه اللمسات الجمالية. والثانى، لأنها تكشف مستوى الضيق الذى تملكه تجاه فيسبوك، الشركة الأم. فقبل هذه الواقعة بعام واحد، مزق سيستروم بنفسه ملصقا تحفيزيا كبيرا طبعت فيسبوك عليه عبارة «إنجاز العمل أهم من الكمال». وثالثا، لأن هذا الإجراء أثر على العاملين برغم بساطته، فقد اعتقدوا أن انستجرام تسعى إلى الكمال، وكتموا فى صدورهم ضيقهم بالسلال، بل خشوا من مجرد نشر وسم #فضيحة سلال القمامة للتعبير عن معاناتهم معها.
وخلال فترة الأعوام العشرة التى تلت تأسيس هذا التطبيق، تطورت مواقع التواصل الاجتماعى تدريجيا لتغير حياتنا بصورة جذرية. لنقل إن السعى إلى الكمال كان حافزا لظهور جراحات للتجميل التى أوحت بها نظم مرشحات الصور، ولحدوث طفرة فى حجم أصناف الحلويات بدرجة يتعذر معها استيعاب الفم البشرى لها.
والسؤال الذى يفرض نفسه الآن: كيف أغرى هذا التطبيق البسيط للمشاركة فى الصور مليار مستخدم فى العالم على الاشتراك فيه على مدى ثمانية أعوام فقط ؟. ليس هذا فحسب بل هناك سؤال أكثر إلحاحا وهو :هل يخلق انستجرام منظومتنا القيمية، أم تراه مجرد انعكاس لها ؟. وإذا كان مسئولا عن خلق هذه المنظومة بالفعل، ألا يجب أن نعرف أكثر عن فكر العاملين فيه، والدوافع الحقيقية التى تحركهم ؟. لنعد إلى ملابسات صدور الكتاب حتى يتضح هذا كله.
وقعت سارة فراير عقد كتابها مع دار النشر فى عام 2018 وأمضت عاما كاملا بعدها فى إجراء مقابلات شخصية مع العاملين فى انستجرام، وقبل غالبيتهم التحدث دون إذن مسبق من فيسبوك، بشرط عدم نشر أسمائهم. ولفتت الدار انتباه المؤلفة إلى أن أى كتاب يمكنه أن يخرج إلى النور ويحقق النجاح إذا ما اشتمل على مائة عنصر لم ينشرها أحد من قبل. ونجحت سارة فى تخطى هذه العلامة بمراحل، ليخرج الكتاب فى نهاية المطاف شبيها برواية تحكى قصة مولد هذا التطبيق وتطوره، وذكريات العاملين فيه من الداخل.
حكايات هامشية
يتناول الكتاب قصة سيستروم مع الفنان أشتون كوتشر. فقد أنقذه من حريق مروع فى كوخه الخشبى وكانت الساعة نحو الرابعة صباحا، بفضل التطبيق. رد الفنان الجميل وساعد انستجرام على الانتشار بين المشاهير عن طريق تنظيم حفل، قدم سيستروم خلاله التطبيق إلى كوكبة من الفنانين.
وهناك قصة أخرى، فقد احتفل فريق انستجرام بصفقة شراء فيسبوك للتطبيق بتمضية أسبوع، إقامة كاملة، فى فندق أبراج دونالد ترامب العالمية فى مدينة لاس فيجاس. واستقبلتهم ابنته إيفانكا ترامب شخصيا ورحبت بهم ببضع كلمات رقيقة. ولدينا حكاية طريفة تعكس جانبا من شخصية سيستروم، فهو يفضل كل ما هو أنيق وفاخر فى المأكل والمشرب، وتشهد على هذا قائمة العلامات التجارية الغالية التى يفضلها. وبرغم هذه الحقيقة، فإن فكرة التطبيق ذاتها بدت شديدة البدائية فى نشأتها. ففى سن 25 عاما، عمل سيستروم فى قسم التسويق بشركة جوجل بعد تخرجه فى جامعة ستانفورد. وفى عام 2009، أسس شركته الخاصة بالتعاون مع مايك كريجر مهندس البرمجيات وصديقه. أما الفكرة الأصلية فتمحورت حول بناء موقع يمكنه أن يطلع الأفراد (وقتيا) على أماكن وجود أصدقائهم، وطريقة تمضيتهم لحفلاتهم وأوقاتهم السعيدة. وهنا ظهرت العقبة، فكاميرات التصوير بالهواتف المحمولة المتاحة آنذاك ضعيفة التباين وتنتج صورا غير مبهجة. وسريعا ما وفر حلا للمشكلة عن طريق تزويد تطبيق انستجرام بمرشحات تمكن الأفراد من تحسين الصور الملتقطة، وتجميلها، فتصبح أكثر قبولا فى عيونهم وأعين المتلقين.
تغيير العالم
وتخلص مؤلفة الكتاب مما سبق إلى حقيقة بسيطة: «إن ولع سيستروم بعامل «الجودة» نجح فى تغيير واقعنا». وهناك أمر آخر يرتبط بهذا، ففى بداياته الأولى خضع التطبيق لإشراف واسع النطاق من عامليه نتيجة عجز المشترك عن بث صورة ومشاركتها مباشرة مع الآخرين حينئذ. ودفع هذا فريق العمل إلى اختيار أفضل الصور ونشرها واحدة وراء أخرى على صفحة «الأكثر شعبية» بالتطبيق. بعبارة أخرى، فإن هذا الفريق المجهول بالنسبة لنا كان صاحب فضل علينا بطريقة لم نستشعرها.
وتدلل المؤلفة على هذا بحكاية الكلبة تونا التى بث التطبيق صورا منتقاة لها، فأسهمت فى الحد من مشاعر القلق ونوازع الاكتئاب بين شريحة من المشتركين. وتدريجيا، أصبح مليونا مشترك على الأقل يتابعونها. ودفع هذا كورتنى داشر صاحبة الكلبة إلى التحلى بالجرأة والاستقالة من عملها للتفرغ إلى نشر الصور. وحققت داشر دخلا مريحا من هذه الخطوة بفضل انستجرام. لقطات غيرت مسار حياتها. ولا يقتصر الأمر على هذا، فقد وفر التطبيق باعثا إيجابيا لدى ملايين البشر بأن حياتهم العادية باتت ذات قيمة، وتستحق الاهتمام والمشاركة مع غيرهم. وداعا لمشاعر الدونية، وغيرها من العقد.
ومن جهة أخرى، اعترف جراح تجميل إلى سارة فراير مؤلفة الكتاب بأن عددا لا بأس به من زبائنه باتوا يطلبون الخضوع لجراحات يتعذر تنفيذها عمليا بسبب حيل هذا التطبيق الإلكترونية لتحسين الملامح، وتجميل أبعاد الجسم وصفاته. فقد عبر عدد لا بأس به من عميلاته عن رغبتهن العارمة فى الوصول بمقاييس قوامهن إلى مستوى الحسناء كيم كاردشيان صاحبة سابع أكبر حسابات إنستجرام شعبية.
فقدان السيطرة
قفز عدد مستخدمى إنستجرام النشطين إلى مليار شخص شهريا لأول مرة فى يونيو من عام 2018. وعلاوة على هذا، هناك ستة ملايين حساب لكل منها مليون متابع تقريبا. ونتيجة لذلك، أصبح متعذرا على مسئوليه فرض قواعد العمل الأصلية، وفقا للمحاذير الصارمة القديمة. ومن أبرز تلك المحاذير، صور ملابس السباحة الساخنة التى دأب التطبيق على منعها فى بدايته لدواع منها ما يطلق عليه:»الحساسيات الفنية». وباتت تلك اللقطات الآن أمرا عاديا لا يستحق الالتفات. وشجع التطبيق نشر صور سيلفى للمشتركين مع إظهار عدد المعجبين باللقطة، وكانت الكارثة. فقد بات إنستجرام أشبه ما يكون بساحة يتسابق اللاعبون فيها على الفوز بأكبر عدد من النقاط، بغض النظر عن عوامل موضوعية أخرى كثيرة. كالخطورة مثلا.
أما ثالثة الأثافى كما يقال، فتمثلت فى مخاطر التطبيق على الصحة العقلية للأفراد. ففى عام 2017، نشرت الجمعية الملكية للصحة العامة فى بريطانيا نتائج دراسة حذرت صراحة من خطر إنستجرام على سلامة المراهقين عقليا. وقالت إن التطبيق هو الأخطر على الإطلاق فى هذا المجال، مقارنة بتطبيقات إلكترونية أخرى. وللتدليل على هذا، فإن 20 ألف جراحة تجميل أجريت فى الولايات المتحدة وحدها فى عام 2017 لشابات أصبن بهوس كيم كاردشيان !.
عبقرية تجارية
أتم مايك زوكربرج، مؤسس فيسبوك، صفقة شراء تطبيق إنستجرام فى إبريل من عام 2012. وبلغ عدد العاملين فيه آنذاك 13 شخصا فقط لا غير، ولم يكن التطبيق يحقق أى ربح مادى على الإطلاق. فما الذى أغراه فيه، ولم تعهد بإبقائه مستقلا ؟. سعت سارة فراير لإجراء مقابلة معه للرد على هذا السؤال قبل نشر الكتاب، ولكنه رفض مكتفيا ببضع كلمات قدمت مكتوبة عن طريق موظف فى العلاقات العامة بشركته العملاقة. جاءت الجملة هكذا: «إنه تطبيق بسيط وخدمة رائعة، ورغبنا فى مساعدته على النمو». ولكن القصة تبدو أعقد من هذا بكثير.
أرجعت المؤلفة السبب إلى عقدة العظمة لدى زوكربرج، فهو يتحسس على الدوام من منافسيه الحاليين والمحتملين مستقبلا. وتبرهن سارة فراير على هذا بعدة مواقف رصدتها فى الكتاب وبدا منها وجود صراع واضح على السلطة داخل إنستجرام بعد الصفقة (زوكربرج مقابل سيستروم). وعندما قفز عدد مستخدمى التطبيق إلى مليار شخص، رفض زوكربرج توظيف عاملين جدد، ومنح أولوية مطلقة لخطط تطوير محتوى فيسبوك (الشركة الأم) على حساب التطبيق، وأرخى قبضة الرقابة الداخلية على المحتوى. ونتيجة لهذا بدأ إنستجرام فى المعاناة من بعض الظواهر المثيرة للقلق ومنها: بيع المواد الأفيونية من خلاله، وانتشار مظاهر لإيذاء النفس على صفحاته.
وللتدليل على مواقفه المثيرة للاستغراب، ذكرت سارة قصة عارضة. ففى مساء اليوم الذى حاز فيه زوكربرج على إنستجرام، عض كلبه ساق مدير الصفقات بالشركة أمين ظفنون. وبسؤاله عن الواقعة، قال الضحية: «تبين لى أنه يهتم بكلبه أكثر بكثير من اهتمامه بى». أما كلمة زوكربرج الأثيرة فى ختام كل اجتماع مع مرءوسيه فهي: «الهيمنة». وإذا عدنا إلى قصة سلال القمامة فى بداية هذه السطور، سندرك على الفور مدى الفارق بين رجلين.
رابط دائم: