رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ورد اخر

ناصر الحلوانى;

كنت أعدو، أسبق خطواتهم الرتيبة، بجوار سور مجرى العيون، عيون حجرية هائلة المآقى، أقواس متوالية، كبوابات بلا أبواب، ينفتح بعضها على عالم لا أعلم عنه شيئًا، وبعضها موصَد بأحجار كأجفان منسدلة، وخلفها بيوت فقيرة، وشوارع صغيرة، وكثير من الكلاب الهزيلة، وقطط لا تموء.

أركض إلى العين التالية، أراها هائلة الارتفاع، ألصق ظهرى بأحد جانبيها، أحس صلابة الحجر تدفعنى، تنغزنى النتوءات الخشنة، أشب بقدمى، وأمد بصرى إلى أقصى استطاعتى، كأنى أستطيل لألمس مفتاح القوس، وأخطو ببطء ورأسى لأعلى، تسير معى أحجار القوس فى خط مُنحنٍ هادئ، يرتفع حتى يصل إلى الفص الذى تستند إليه الأحجار المعلقة فى قوسها، ومع خطواتى، يعود المنحنى الحجرى إلى الانخفاض حتى تصطدم نقوشه بوجهى.

وقبلما تزعق فيَّ أمى، كعادتها، ينظر جدى تجاهها، ويقول لها: «سيبيه يلعب ده لسه عيل»، فأسرع إلى العين التالية، ألصق ظهرى بجانب القوس، وأغمض عينىَّ، وأخطو من دون أن أمد يدى أمامى، كان ممتعًا أن أستطيع التوقف قبل أن أصطدم بالجدار المقابل، محاولا تقدير لحظة وصولى، وفى كل مرة، كنت أصطدم بالجانب الآخر، وكان لهذا متعته أيضًا.

كانت الأقواس تأخذ فى التضاؤل والانخفاض، حتى لا أعود أتمكن من الدخول تحتها، ويظل الرصيف الطويل ممتدًا، نجتاز سربًا من النساء المتشحات بالسواد، يُخفى بعضهن وجوههن بأطراف طُرحهن، وينتحبن، ويمضين مثل غيمة أرضية تعبر نهارًا مشمسًا.

أعود إلى جدى وخطواته الهادئة، أمسك بيده، أشعر بكفه العجوز، بشرتها اللينة المجعدة، أصابعه النحيلة الملساء، أسأله: «إحنا ليه بنروح القرافة؟»، انقبضت كفه، لوهلة، على كفى، ثم ابتسم لى: «علشان نزور سِتَّك». نظرت جهة أمى خلفنا، تأكدت أنها بعيدة بحِملِها من الفطير، سألته: «بس مش هى ماتت!» هدأت خطواته، وأحسست برجفة خفية وغريبة تسرى من كفه، عبر ذراعى، وتستقر فى قلبى. التمعت عيناه وهو يقول: «أيوه»، وأخرج منديله، وأخفى به وجهه لحظة. انتابتنى رهبة مسَّت شغاف قلبى، وشعرت بانتفاضه المكتوم يتخلل روحى.

وما إن ظهر أول بائعى الورد، الجالسين بطول ما بقى من الرصيف، حتى صحت قائلا: «أنا اللى هاشيل الورد»، ولكن جدى تجاوزه، ومررنا بالبائعة التالية، كانت صبية تكبرنى بقليل، نظرت إليها ثم إلى جدى، كانت مثل باقى البائعين؛ تفرش الورود على قفص مقلوب من الجريد، وتجلس على آخر، ترتدى جلبابًا قديمًا، فقدت زهوره ألوانها، وبدا وجهها باهتًا إلى جوار زهورها الصفراء والبرتقالية الزاهية، ويابسًا إلى جوار أوراق السعف الخضراء المرشوشة بالماء. لم يلتفت جدى إليَّ، وكأنما أحس بما ترغبه نفسى الصغيرة، سمعته بالكاد: «مش من هنا».

كان تيار الرهبة السارى بيننا مازال حيًّا، فلزمت الصمت، ومشيت معه، وفى عقلى صورة الصبية، ووجهها الصغير الصامت، ويدها الدقيقة اليابسة تربط حزمة ورد لبعض العابرين. حينها لم أكن أدرك معنى الإحساس القابض، الذى انسل كالنصل إلى روحى، عبر الكف النحيل الذى يمسك بيدى.

نظرت إلى السماء، لم يكن هناك عصافير أو حمام، التفت إلى جدى، كان لا يزال يُمسك بمنديله، وعيناه تزداد لمعتهما، وكان وجه أمى يبدو متجهِّمًا من أثر حملها لسبت الفطير الثقيل، ومشقة السير فى الشمس.

وجدتنى أمسح دمعة أحسست بسخونتها على وجنتى، بينما أفكر فى ذلك الحبيب الذى ماتت زوجته، وتركته وحيدًا، هل سيموت هو أيضًا، ويتركنى وحيدًا؟

دار السور إلى اليمين، ومعه الرصيف المترب، وتوقفنا حتى أدركتنا أمى، ثم عبر بنا الشارع، إلى الرصيف المقابل، الذى ينتصب على طول جانبه سور قصير، يحد فضاءً شاسعًا يسكنه الموتى.

صرنا إلى الجهة الأخرى، حيث الأفق المفتوح على سماء صافية، تحملها الكثير من المآذن، والقباب، وذلك السور الحجرى القصير، أتكئ عليه، وأجوب ببصرى فى تلك البحيرة الترابية الهائلة، تشبه ميناء تزاحمت فيه قوارب مذعورة، ركام من المقابر المتلاصقة. هل يخاف الموتى، أيضا، الوِحدَة؟ تساءلت فى نفسى.

كان ثمة جدران بألوان أرضية، تصعد هنا، وتهبط هناك، فى فوران أهاجه مخلوق غامض يكمن فى قاع تلك البحيرة الرمداء، لم يره أحد أبدًا، لكن أحدًا لا ينفى وجوده، ولم تكن الألوان المبتهجة للطيارات الورقية، التى تصعد خيوطها من قلب هذا الغبار المتلاطم، لتخفف من تأثيره، وكذلك تلك الورود الصفراء والبرتقالية، بلون الغروب، على هذا الجانب، ما كانت لتُحل السكينة فى قلبه، بينما كان يبتلعها بانتظام قدرى.

ومن مكانى، خلف السور الحجرى، على الطريق، كنت أرى بقع الأصفر والبرتقالى والأخضر تتحرك أمام خلفيات سوداء متناثرة، لتختفى الألوان كلها، فى باطن تلك اللجة الأخروية، أو تسكن إلى التراب حول الشواهد الجيرية الفقيرة، بعد أن تضعها الحزانى، اللائى ابتعنها بقروش قليلة، فوق موتاهم.

وعند أول الطريق الترابى، الممهد بخطو زمان طويل من جنائز متواترة، ومواسم الحزن، كانت وحدها، عجوز تتكوم فى سواد ثيابها وسنين عمرها، وأمامها قفص الجريد نفسه، وفوقه الورود نفسها، ونحوها توجه جدى، تاركًا يدى، وفى نبرة خافتة قال: «السلام عليكم»، التفتت العجوز إليه مبتهجة، وهى ترد: «أهلا يا حاج، تعيش وتفتكر»، لم يرد عليها، ولم تفارق عيناه وجهها، والذى يتجه نحو أفق ما، ولا يحيد عنه، وبسرعة مدت يديها إلى ورودها، باقة من الصفراء، وأخرى برتقالية، حزمتهما معا، ثم بعض السعف الأخضر المرشوش بالماء، وبواحدة من السعف، وببراعة، جعلتهم ربطة واحدة، جميلة.

أسرعت لآخذها منها، استوقفتنى كف جدى، سكنت فى مكانى، وبخشوع تناول باقة الورد منها، أبقاها فوق كفيه قليلا كطفل وليد، ثم استدار نحوى، ووضعها فوق ذراعى، بلل ماؤها صدرى، ثم رفع كف العجوز بيد، وبالأخرى ناولها النقود.

أحسست برودة منعشة تنبسط فى أنحاء جسدى، كانت أمى قد سبقتنا على الطريق الترابى، تبعناها، ومعنا كان صوت العجوز بدعواتها المنسابة لجدى، كنت أعرف هذا الصوت.

من بعيد التفت نحوها، جلبابها الأسود، ومنديل رأسها الأسود أيضا، المعقوص على جبينها، وملامح وجهها التى التصقت ببصرى، وتجاعيدها، وخصلة شعرها الخفيفة المصبوغة بالحنة، وتلك الكرمشات المتناسقة على كفيها، وصوتها الواهن العميق، ونظرتها الثابتة إلى الأفق، ثم نظرت إلى باقة الورد فى يدى، كانت أحلى من كل الورود التى يحملها السائرون إلى موتاهم، وكان التيار الذى يسرى عبر كفى أكثر خفة. توقفت فجأة، ودون أن أنظر إلى عينيه، قلت له: «الست دى شبه ستِّى بالظبط».

اشتد دفق التيار الخفى إلى روحى، والوجد الكامن فى خطوات جدى، على الطريق الترابى، الملتوى مثل متاهة. ويمضى كثيرون، خلفنا وجوارنا، يحملون حزنهم الطازج، أو القديم، وربما بعض الذكريات الطريفة، وباقات ورد، تمتزج فى أنوفهم رائحة الغبار الحادة، ورائحة الورود، المنداة بالماء، تحت شمس ساخنة، وفى قلب ريح خفيفة تحرك أطراف مناديل النساء، وجلابيب الرجال، وأوراق الورد الصابح.

على جانبى الدرب الغبارى تتراص الأحواش، وأشجار ليمون جافة، والتُرَب المنتصبة فى الخلاء، ترتفع فوقها شهود مطلية بالجير، وموشوم فى بداءتها بخطوط متقنة آيات وعبارات وأسماء، لم تكن جدتى فى إحداها.

على مدى عمره، ظل جدى يدخر ما يمكنه لبناء حوش له جدران من الحجر، وباب من الحديد المدهون بالأخضر، الذى استحال إلى مزاج من لون التراب والصدأ مع الأيام، ولكن لم يبق له ما يمكنه من بناء سقف، «بينها وبين ربنا عمار، ليه نحجزها عنه» كان يقول. «بس الورد بيموت بسرعة فى الشمس» قلت له ذات مرة، «كل خلق الله يموت» رد وهو يربت على رأسى برقة.

وفكرت أننا نحمل وردات ميتة لنضعها على أرض تحوى موتى، ولكنى حرصت على أن أحيط الباقة بذراعى، أضمها إلى صدرى، حريصا على ألا تقع، فيفسد التراب شكلها الجميل.

وكانت أوراق السعف الطويلة، حادة الأطراف، تداعب أنفى، وتبلل وجهى، أشعرُ بها تدغدغنى، أضحك، فيلتفت جدى نحوى مندهشًا، وعبر كفى الأخرى، التى تحيط بالسيقان الخضراء اللدنة، أحس بدبيب حياة من نوع آخر يسرى إلى روحى.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق