تلقيت تعليقات كثيرة حول رسالة «الحدث المثير» فى بريد الجمعة، ومنها هذه الرسالة للدكتور عز الدولة جابر عبدالله الشرقاوى من سوهاج، والتى يرصد فيها تجربته الشخصية حيث يقول: تعليقا على رسالة «الحدث المثير» فقد جاء ردكم غاية فى الإبداع مع الاجتهاد فى توضيح مسالب ومزايا الزواج الثانى بعد وفاة الزوجة، والتركيز على حسن الاختيار بالنسبة للسن والوسط الاجتماعى والخلفية الثقافية والدينية للطرف الآخر خاصة فى الحالة التى وقع صاحبها فريسة لعملية نصب واحتيال لا تنطلى على طفل صغير، وأحب أن أضيف ومن واقع تجربة شخصية أن الزواج الثانى ضرورة خاصة للرجل الذى تجاوز ستين عاما، وانفض من حوله الأبناء بمشاغلهم من أعمال وأولاد وواجبات والتزامات ألقت على كاهلهم ما تنوء بحمله الجبال، ولم يعد لوالدهم مكان وسط هذه الشواغل، وتذكرت مسلسل المبدع عبدالمنعم مدبولى «أبنائى الأعزاء شكرا».. لقد خضت تجربة شخصية مع والدى رحمه الله، ووفقنى الله إلى أن أزوجه بعد وفاة والدتى بتسع سنوات كنت خلالها غير موجود بالمحافظة، حيث اضطررت للعمل فى دمنهور عقب مشكلة مع أحد المحافظين، ولقد تغيرت أحوال والدى تماما وأصبح إنسانا آخر بعد زواجه بسيدة فاضلة من أسرة طيبة دلنى عليها أحد زملائى الأطباء بالمستشفى، وكانت تحتاج إلى عملية استئصال ورم بالرحم، وأجريتها لها، وعندما عادت فى الاستشارة وكان زميلى قد أحاطنى بظروفها العامة والخاصة ووجدت فيها الزوجة المناسبة لوالدى، فاتحتها فى الأمر، وواجهتنى ثلاث مشكلات، حيث أنها كانت متزوجة من ناظر مدرسة، وتتقاضى عنه معاشا شهريا بعد وفاته، وأن هذا المعاش سوف يتوقف حال زواجها، وكذلك بعد وفاة والدى لن تحصل على معاش لأنه يعمل بالتجارة وليس له معاش، ولقد تعهدت بالتزامى بدفع ما يساوى هذا المعاش وزيادة فى أى ظروف تحدث، وكانت المشكلة الثانية هى رفض معظم أشقائى وشقيقاتى هذا الزواج دون أسباب مقنعة.. ولقد واجهتهم بحالته النفسية، وأنه فى أشد الحاجة للونس ولتغيير جو الكآبة الذى يعيش فيه، وكانت المشكلة الثالثة هى عدم وجود شقة جاهزة، خاصة أن شهر رمضان قادم بعد عشرين يوما من اتفاقنا على كل شىء، وبفضل الله وحده قمت بتشطيب وفرش شقة فى منزلنا، ولأن الأعمال جميعها كانت خالصة لوجهه تعالى فلقد تم الزفاف قبل شهر رمضان بخمسة أيام حتى يشعر أبى بالتغيير الشامل فى حياته والذى استمر أربع سنوات مرت كلمح البصر، وكأنه طائر استعاد حريته عقب سجن واعتقال.
ودارت الأيام وانتقلت زوجتى إلى جوار ربها، ووجدت نفسى وحيدا، وحقا كما قال الفنان الراحل عبدالسلام محمد فى «سكة السلامة»: «إن الوحدة صعبة»، ولأن جميع أبنائى متزوجون ويعملون فى مهن طبية جامعية ولا يستطيعون القيام بأعباء الأبحاث والمحاضرات والعيادات ومتابعة أولادهم فى الدراسة والأنشطة الأخرى إلا بشق الأنفس، فإننى استخرت الله فى قرار الزواج الثانى والذى كنت أراه ضروريا جدا لأننى لا أستطيع أن أسلق بيضة أو أعد كوب شاى أو أقوم بغسل جورب أو منديل أو ما شابه ذلك من أعمال منزلية، وكانت لحظة الاختيار فارقة، فلقد أفاء الله من نعمه الكثيرة علىّ بأن أرسل لى ملاكا فى ثوب إنسان هو ابن عمى الدكتور الجراح محمد الشرقاوى، وقال لى بالحرف الواحد: «أنا جايب لك هدية.. دى زوجة سوف تأخذ بيدك إلى الجنة»، وذكر لى بعض المعلومات التى أسعدتنى، خاصة حفظها للقرآن الكريم وحصولها على ماجستير لغة انجليزية، وأهلها الذين أثنى عليهم صديقى د. محيى الدين رشوان، وكانت طوق النجاة لى، وسدا منيعا لأولادى يقيهم السقوط فى التقصير فى احتياجاتى المعيشية، وقارب زواجى أن يكمل عامه العاشر، وفى كل يوم بل فى كل ساعة أشعر برضا الله عنى أن وفقنى إلى هذا الطريق، فلم أكن أستطيع أن أعيش بدونها مطلقا، خاصة بعد إجرائى عمليتين جراحيتين بالعمود الفقرى واحدة من سبعة أعوام والأخرى منذ خمسة أعوام، وكان جهادها وتحملها الأعباء التى يطلبها الإنسان فى مثل هذه الظروف طوال أربع وعشرين ساعة دون كلل ولا ملل.
إن الزواج الثانى به حل لمشكلة العنوسة، وأيضا فتح باب للرزق عندما تحصل الزوجة على معاش الزوج بعد الرحيل، وأذكر أن زوجتى قد تنازلت عن معاشها من أبيها عندما تزوجتها، ولأنه كما تدين تدان، وأن ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فإن ما حدث لى هو ببركة دعاء والدى الذى كان يخصنى بالكثير منه وأتمنى أن يكون فى قصتى درس ونموذج لمن يرجو الفوز بالسعادة فى الدنيا والآخرة.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لاشك أن موت الأم حدث جلل ومصاب أليم, يحدث ارتباكا كبيرا فى البيت والأسرة, ويصيب الجميع بالذهول والحيرة فى كيفية استيعاب الحدث أو قبوله, سواء بالنسبة للأب أو الأبناء على حد سواء، أما الأب فقد افتقد بموت الأم زوجته وشريكة حياته، وأما الأولاد فموت الأم بالنسبة لهم فقد للعطف والحنان الذى كان يغذى نفوسهم وقلوبهم, وانحسار للرعاية والعناية التى كانت تلاحقهم, وافتقار لليد الحانية التى كانت تلامس شغاف قلوبهم قبل أن تقع على رؤوسهم وأبدانهم.. إنه فقدان لكل شىء يمت إلى الحب والعطف والحنان والرعاية بصلة.
وعندما يفكر الرجل فى الزواج الثانى لمواصلة الحياة تظهر بعض المشكلات الاجتماعية والنفسية التى لابد من مواجهتها وحلها بشكل سليم وصحيح، وهى تختلف إذا كان الأولاد صغارا،عنها إذا كانوا كبارا تجاوزوا سن المراهقة.. وأمام هذه العوائق لابد من اتباع خطوات فعّالة ومتسلسلة للوصول بالزواج والبيت إلى بر الأمان, وكلها تقع على عاتق الأب الذى ينبغى ألا يتخذ قرار الزواج دون مراعاتها وتطبيقها, تجنبا للوقوع فى متاهات العراك مع الأولاد التى لا يمكن أن تأتى بنتيجة, حتى ولو تم الزواج, لأن الأولاد يمكن أن يحولوا هذا الزواج إلى جحيم لا يطاق عبر اختلاق المشكلات مع زوجة الأب, والتى تجعل الأب فى النهاية يقع فى حيرة بين أولاده من جهة، وزوجته من جهة أخرى, وبالتالى يعيش دوامة مشكلات لا تنتهى, ويكون الجو الأسرى سيئا وغير صحى.
من هذا المنطلق ينبغى مد جسور المودة والمحبة بل والصداقة بين الأب وأبنائه, من خلال التقرب منهم أكثر, ومناقشتهم ومحاورتهم فى القضايا الاجتماعية والحياتية, والتمهيد المتدرج لصعوبة الحياة دون امرأة ترعى شئون البيت والمنزل, لتكوين أرضية سليمة لتقبل الزواج فيما بعد، ويجب حسن الاختيار لا على مستوى الدين والأخلاق فحسب, بل أيضا على المستوى الاجتماعى المناسب للبيت والأولاد, فالمرأة القريبة المحببة للأولاد أفضل من البعيدة, وأن يتمتع الأب بكثير من الحكمة والصبر, ليكون حلقة الوصل بينها وبين وأولاده, فلا يهدر حقوقهم, ولا يهضم حقوقها, ولابد أن يدرك أن مهمة زوجة الأب هى نسج علاقة طيبة حسنة مع أولاده الذين بلغوا قدرا من البلوغ والنضج ليس بالأمر السهل, فعادة ما تتقدم الزوجة ويتأخر الأولاد, وعادة ما يكون الوصول إلى مودتهم ومحبتهم أمر صعب مما لو كانوا أصغر سنا, فإذا أضفنا لذلك واجبات الزوجة تجاه الزوج والبيت، فإن الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا, مما يحتم على الأب أن يدعم الجانب النفسى لدى الزوجة من خلال حثها على الصبر والمصابرة للوصول إلى الهدف المنشود.
إن الزواج الثانى أمر طبيعى يحتاجه كل رجل يفقد زوجته بغض النظر عن سنه وعمره, فالزواج ليس للرغبة الجنسية فحسب, بل أيضا حاجة نفسية اجتماعية فطرية كما أرادها الله تعالى، وأحسب أنك بذكائك وحسن تقديرك الأمور قد نجحت فى تزويج أبيك بعد رحيل أمك، ثم زواجك بعد رحيل زوجتك، وهكذا يكون التفكير السليم.
رابط دائم: