رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بئر الإبداع.. لماذا تجف

محمد جبريل

طبيعى أن يمر المبدع فى فترات من حياته بحالات جدب، تستعصى عليه العملية الإبداعية، بداية من تشوش الفكرة إلى ضعف الصياغة، وربما عدم الاطمئنان إلى المفردة التى تؤدى المعنى. المشكلة فى ثبات حالة الجدب.


أشفق أصدقاء جابرييل جارثيا ماركيث ونقاده من توقفه عن الإبداع لفترة طويلة. ظنوا أنه يعانى الجدب، وأنه لن يعود إلى الكتابة الإبداعية، لكن المبدعين المقربين من ماركيث رفضوا تصور أن موهبته تعانى العقم. تحدثوا عن موهبته الفطرية الخلاقة، وأن ما يبدو عقمًا إن هو إلا مرحلة استيعاب وهضم بطيئة.

....................



أذكر أنى تأثرت لقول يحيى حقى فى «أنشودة البساطة» إن الفنان وحده دون سائر الناس قد يذوق الموت مرتين،

«ياله من قدر: موت على يد عزرائيل حين ينتهى أجله، وموت أدبى حين ينضب معينه، جنازات بعض كبار الأدباء ما هى فى الحقيقة إلا تشييع لرجل كانت جثته تمشى على الأرض فى زى الأحياء». كلمات حقى تذكرنى بقول تنيسى وليامز: «إن كل فنان يموت ميتتين، ليس فقط موته هو كمخلوق مادى، وإنما أيضًا موت طاقته الخلاقة، فهى تموت معه».

بالنسبة لحقى، فقد أضاف إلى تأثرى أنه توقف عن الإبداع القصصى فى سن السادسة والخمسين، سن عطاء، وليست سن توقف، لكن «الفراش الشاغر» التى كتبها فى 1961 من مواليد 1905 كانت آخر قصصه القصيرة، لم يكتب بعدها سوى خواطره ومقالاته الصحفية. أسأله: لماذا لا تعود إلى كتابة القصة؟. يقول ببساطته العفوية: تجهدنى كتابة القصة [ أتذكر قول أمريتا بيتام فى روايتها «وجهان لحواء»: كم هى مؤلمة الولادة، ولادة أى شيء! ]. وكما أشار يحيى حقى فى «أنشودة البساطة»، فإن العمل الفنى لا يقبل الوسط، أو التساهل، أو الأخذ بالأهون، أو القناعة بالحسن دون الأحسن. إنه يتطلب حشد كل القوى، فلا تتخلف منها ذرّة، وشد الطاقة إلى آخرها، ولو إلى حد التمزق». السرد الفنى، القصة أو الرواية، لا ينتهى بميلاده، لا ينتهى بتخلقه على الورق، لكنه يحتاج إلى رعاية حتى يطمئن الكاتب إلى عافيته، وقدرته على الحياة، مثلما تفعل الأم بعد أن تلد طفلها، فهى تحممه، وتعلمه كيف يحبو، ويقف، وينطق الكلمات. ويشير حقى فى رسالة له إلى الصراحة القاسية فى قول بنت الشاطئ، إنه على أصحاب الأقلام إذا شاخوا أن يسدلوا الستار بأنفسهم على مسرحهم، صونًا لهم من إنتاج أعمال مصابة بالجفاف والسعال والروماتيزم. وقد تصور حقى كما جاء فى رسالته أن بنت الشاطئ كانت تعنيه بقولها.

وبعد أن صدرت رواية «خرائط الروح» للروائى الليبى الصديق أحمد إبراهيم الفقيه، تساءل فى نبرة متحيرة: هذه الرواية أطول ما كتبه روائى عربى.. هل تحتاج قائمة كتبى إلى رواية جديدة؟, ووشى صوته بالإقناع: ربما أحلت كتاباتى المبدعة إلى المعاش!

أذكر أنى رفضت الفكرة لثقتى بطبيعة المبدع, هو لا يخاصم الإبداع، والعكس صحيح، وكتب الفقيه حوارنا فى «الأهرام»، بالإضافة إلى آراء تكاد تكون متطابقة لأصدقاء آخرين.

أرجع نجيب محفوظ فترة توقفه عن الكتابة السردية الإبداعية بعد قيام الثورة إلى تصوره بأنه قال كل ما لديه، ولم يعد لديه ما يضيفه. وتحدث محفوظ عن الأحلام التى بدا أن الثورة قامت لتحقيقها، بحيث انتفى الغرض من مواصلة الكتابة، ولو من خلال الواقعية الطبيعية التى اتسمت بها رواياته منذ «خان الخليلى» إلى «الثلاثية».

ظنى أن توقف محفوظ عن كتابة الرواية والقصة، واتجاهه إلى كتابة السيناريو السينمائى، كان وليد أزمة شبيهة بأزمة عمر الحمزاوى فى «الشحاذ», ليست الأزمة الروحية التى عاناها الحمزاوى، بل الأزمة المادية المتمثلة فى ابنتين يريد الأب المتقدم فى السن نسبيًاــ أن يضمن لهما مستقبلًا مأمونًا. وحين عاد محفوظ إلى الكتابة السردية، فقد كان بديهيًا أن يلامس مغايرة فى القضايا التى تناولها قامت ثورة! وفى الفنية، وهو ما تبدى فى «أولاد حارتنا»، وما تلاها من أعمال يغلب عليها طابع الرؤية الميتافيزيقية والفلسفية، ثم تداخلها مع مرحلة الرمز، فبلوغها مرحلة الواقعية النقدية، إلى تفضيله فى أخريات أيامه فنية اللوحات المنفصلة، المتصلة، والتى أخذت فى معظمها شكل الومضة، وهو ما تبدى فى «أصداء السيرة الذاتية»، ثم فى «أحلام فترة النقاهة».

لم يواجه نجيب محفوظ بخذلان الإبداع، لأنه حرص أن يظل فى عناقه له، حتى الفترات التى توقف فيها عن النشر أيام رئاسته لمؤسسة السينما مثلًا كان حريصًا على الجلوس إلى مكتبه بصورة يومية ومحاولة الإبداع.

لويس جريس طرح السؤال: لماذا تخبو الموهبة الكبيرة بعد نبوغها وسطوعها؟

وأجاب لويس عن سؤاله بأن السبب ربما هو ابتعاد المبدع عن الروافد التى ينهل منها، فلا يكف بعد أن يحقق تفوقًا عن طلب المزيد من الاطلاع والمعرفة. المثل المقابل نجده فى مبدعى الغرب الذين يحرصون على القراءة والتجريب والتطوير، فيواصلون الإبداع حتى آخر أيام حياتهم.

ولعلى أتصور أن حرص المبدع على فنه، يساوى حرص الإنسان العادى على عضلة ما فى جسده، إذا لم يستعملها فى الغرض الذى خلقت له، فإنها ستتأثر، ويصيبها ما أصاب الزائدة الدودية، التى كان لها تأثيرها الإيجابى فى جسد الإنسان، قبل أن تتغير طرائقه فى الطعام إلى ما هى عليه الآن!

لم أصدق نجيب محفوظ إذن فى قوله إنه توقف عن الإبداع عقب قيام ثورة 1952، لأنه على حد تعبيره لم يعد لديه ما يقوله. أدرك عشق محفوظ لفنه، وضعه فى المرتبة الأهم من اهتماماته. حتى فكرة الزواج ظل يرجئها خشية أن يربك الزواج علاقته بالفن, محفوظ يحرص على استخدام عضلة الفن، لا يهملها، فتعانى الضمور، فالتلاشى. ذلك ما فعله مبدعون آخرون، شغلتهم ظروف ممتدة ووقتية، وحين أرادوا العودة إلى الرواية فاجأتهم الأبواب المغلقة. الأعوام السبعة التى توقف فيها محفوظ عن الإبداع الروائى لم تكن كذلك، شغل السيناريو السينمائى معظم وقته، لكنه ظل مخلصًا للإبداع الروائى، وثمة ما يدل على أنه بدأ كتابة الثلاثية فى تلك الفترة. وعلى سبيل المثال: نقد بعض الشخصيات للملك فؤاد إلى حد الشتم، من الصعب أن يتضمنه عمل روائى فى عهد فاروق بن فؤاد، وهو ما قرأناه فى الثلاثية.

الفنان هو الإنسان الوحيد الذى يصدر قرار إحالته إلى المعاش من داخله, قد يطيل المد للموظف المتقدم فى السن أعوامًا تطول أو تقصر، لكنه فى النهاية لابد أن يرضخ لقرار إحالته إلى المعاش، يجلس فى البيت، أو يسامر زملاء دفعته فى القهوة، أو يدخل حالة من التصوف، وربما أصابه الاكتئاب، أو الزهايمر، أو تلبسته المراهقة المتأخرة، فيفعل الأعاجيب.

الكاتب المبدع يتلقى قرار إحالته إلى التقاعد من داخله. تفاجئه اللحظة التى نسيها فى وقت لم يتوقعه، أو يتوقعه، لو أنه راجع فترات توقفه، أو انشغاله بما ليس له صلة بالإبداع، تغيب الشخصيات والأحداث وفنية التعبير، وكل ما ينتسب إلى الإبداع الذى لم يتصور نهاية لزمنه.

يعجبنى التعبير «على الكاتب أن يموت ويبعث»، كلمات لا تخلو من صحة، فالإبداع ليس خطًا مستقيمًا، ولا طريقًا تخلو من النتوءات والتعرجات والعقبات.

قد تقلق المبدع فترات من النضوب، يعانى خلالها التشكك والخوف من فقدان الطريق، لكنه ما يلبث أن يسترد عافيته الإبداعية.

تجمد الإبداع هى التسمية التى تطلقها إيزابيل الليندى على توقف الكاتب عن الإبداع، لفترات تقصر، أو تطول، أو تظل بلا انتهاء، ولأسباب تتصل بطبيعة المبدع نفسه، بمدى صلته بالإبداع، توثقها أو العكس.

اللافت أن المبدعين الذين تطول بإرادتهم لسبب أو لآخر، فترات توقفهم عن الكتابة، يصعب عليهم ربما إلى حد العجز أن يعودوا إلى الإبداع.

قد يمرض الإبداع، لكنه يعود إلى تعافيه. أما إذا مات، فالعودة مستحيلة. وقد أدرك اليابانى يوكو ميشيما بعد اكتمال ثلاثيته الروائية أنه قد أنهى ذروة أعماله، وأنه لم يعد لديه ما يضيفه، وحتى يتخلص من المأزق، فقد لجأ إلى الهاراكيرى، قتل نفسه!. ربما كان ذلك هو السبب نفسه الذى أملى على همنجواى فكرة الانتحار بعد أن فاز بجائزة نوبل على رائعته «العجوز والبحر». تساءل همنجواى قبل أن تشغله فكرة الانتحار: ما الذى يفعله رجل فى الثانية والستين، اكتشف فجأة أنه لا يستطيع أن يؤلف الكتب التى حلم بها، والتى أعد نفسه لتأليفها؟

والحق أن قرار التوقف قد يفرضه المبدع على نفسه، لاعتبارات قد لا يكون نضوب الإبداع من بينها. ثمة عوامل خارجية، بمعنى أنها تتصل بملكة الإبداع، تفرض على المبدع أن يتوقف. لعل فى مقدمة تلك العوامل تبين المبدع أنه لا يستطيع العيش من كتاباته، هو لابد أن يعمل فى وظيفة ما، مهنة ما، تعينه على الحياة، بينما يظل الإبداع مجرد هواية تطلب الإنفاق عليها، وليس العكس. أصحاب النفس القصير، ومن يحسبون الأمر جيدًا، قد يتوصلون إلى القرار الصعب، وهو قرار تمليه فى الأغلب ظروف اقتصادية ضاغطة، على سبيل المثال، لم يكن توقف عادل كامل عن الإبداع، بعد أعماله اللافتة القليلة الأولى لنضوب فى موهبته، وإنما لأنه طرح سؤالًا تتبعه إجابة وحيدة: أيهما يفى باليسر المادي: الأدب أو المحاماة، والإجابة الوحيدة بالطبع هى المحاماة. يقول نجيب محفوظ: «تعرفنا، كل أبناء هذا الجيل، حوالى عام 1942. كان الجيل مكونًا من عادل كامل وعبدالحميد جودة السحار وعلى أحمد باكثير ومحمود البدوى ويوسف جوهر وحسين عفيف وأحمد زكى مخلوف، وكانوا جميعًا فى بداية حياتهم الأدبية، وكان عادل كامل فى طليعة هذا الجيل من حيث الامتياز والجودة. إنه جيل واحد فى مكان واحد، وله نشأة متقاربة، ولابد أن الناقد والمؤرخ يجدان صفات مشتركة فى مواقفهم الفكرية وأساليبهم وتوجهاتهم.. كان عادل كامل على المستوى الأدبى قد سبقنا فى نشر أعماله، مثل «ويك عنتر» التى أصدرها على حسابه الشخصى، وأصدر معنا فى لجنة النشر للجامعيين روايته «مليم الأكبر»، ثم «ملك من شعاع»، وبعد ذلك، وابتداء من عام 1945، بدأ يتشكك فى دور الأدب، وجدوى الإبداع، وأخذ كلامه كله يدور فى هذا المعنى، بحيث إنه لو أن كلامه أثر فينا تأثيرًا حاسمًا لكنا جميعًا هجرنا الأدب مثله. ثم فاجأنا أنه قد توقف. وكنا دائمًا نناقشه فى هذا الموقف الغريب، وندعوه للاستمرار، حتى أذكر أنه ضاق بنا، وطلب ألا نذكره بهذا الأمر، فاعتبرناها أزمة خاصة ولم ندر لها سببًا، غير أنه وهذا مجرد اجتهاد قد تصور أن الأدب لم يحقق آماله الذاتية أكثر مما تحقق له، فخاف أن تضيع حياته، فلجأ إلى المحاماة وكسب منها، ومن يومها وحتى الآن، اعتقدنا أنه انتهى ككاتب، إلى أن اكتشفنا أن لديه أعمالًا قديمة تم العثور عليها، ولم يكن يعرف تاريخ كتابتها. وظهر أن هناك واحدًا منا، هو المخرج توفيق صالح، هو الذى يعرف تواريخها، حيث كان يزوره فى الستينيات زيارات خاصة، وكان يراه يكتب، وبعد ذلك كف عن المحاولة. ليست هناك تفسيرات محددة لأن يتوقف الكاتب فجأة وللأبد عن الإبداع. وأذكر أن مثل هذه الحالة قد أصابتنى عام 1952، حين أخبرت زملائى أننى قد انتهيت ككاتب، لأننى سأتجه إلى العمل ككاتب سيناريو للأفلام. ومرت سنوات، وعندما عدت إلى الكتابة الأدبية أخبرت زملائى أن الحركة قد رجعت مرة أخرى. هناك إذن أسباب غير معروفة لدى الكاتب نفسه تدفعه لهجر الأدب، أو العودة إليه مرة أخرى. فمثلاً، فى تلك الفترة كانت عندى موضوعات، ولكن لم تكن لى الرغبة فى كتابتها، ولا أذكر أن أحدًا قد أخبرنى أننى أجدبت. كما أن عادل كامل نفسه لم يخبرنى أنه قد أجدب، لكنه أخبرنى أن الأدب عملية غير مجدية «تقديم نجيب محفوظ لرواية عادل كامل الحل والربط روايات الهلال العدد 534» لم يكن العقم إذن سببًا فى اقتصار عادل كامل على المحاماة باعتبارها مهنة تدر إيرادًا، بعكس الأدب الذى لا يأتى بإيراد حقيقى، أو أن الأديب قد ينفق عليه. الأعمال التى ظهرت بعد عقود من انصراف عادل كامل عن الحياة الأدبية تؤكد استمرار الموهبة التى أثمرت بالفعل العديد من الكتابات.

قد يقال والكلام لفؤاد دوارة إن اختفاء عادل كامل، أو غيره، من الحقل الأدبى، أمر عادى جدًا يحدث مثله فى كل زمان ومكان، وما أكثر الكتاب الذين ألفوا كتابًا واحدًا رائعًا أو كتابين، ونجحوا فى لفت الأنظار إليهم، وإثارة الإعجاب بهم، ثم لم تواتهم مواهبهم أو ظروفهم بعد ذلك ليقدموا إنتاجًا آخر، فاختفوا فجأة كما ظهروا فجأة. مثل هذه الحالة لا يمكن أن تنطبق على عادل كامل، لأنه لم يكن كاتبًا هاويًا دفعته إلى الكتابة نزوة طارئة، وهو لم يتخذ الأدب وسيلة لتزجية الفراغ، وإنما عادل كامل كاتب ناضج مثقف، كان قد قرر أن يتخذ الكتابة حرفة له يكرّس لها حياته وجهوده. وكان يؤمن بأن الأدب رسالة جليلة قرر أن يحمل أعباءها، ويتحمل تضحياتها إلى النهاية «فى الرواية المصرية 14».

يبقى أن لحظة الكتابة الإبداعية تختلف عن لحظات الكتابة فى المجالات الأخرى. أنت تستطيع أن تكتب ما يتسم بالتقريرية، أو العلمية، ما لا يحتاج إلى الخيال، فالكاتب يشرح، ويوضح، ويبدى الرأى، ويفند الآراء المخالفة، يمزج فى كتاباته بين جمال الفن وجمال اللغة. وقد توقف ساراماجو عن الكتابة، ارتكازً إلى شعوره بأنه لا يوجد لديه ما يقوله. ظل متوقفًا حتى بلغ الأربعين. من هنا يأتى قوله: ما كنت سأترك شيئًا ذا قيمة فى الأدب البرتغالى لو أنى رحلت فى الستين!

النصيحة التى يحاول الفنان أن يعمل فى ضوئها بأن يستدعى الإلهام، ولا يجلس فى انتظاره، قد تصطدم بحقيقة نضوب الإبداع، نضوب بئر الإبداع التعبير لإيزابيل الليندى فالأفكار لا تواتيه، والقدرة على الصياغة تخذله، وإذا أصر على المواصلة فإن الكلمات تبدو جافة أو شاحبة، وبلا معنى، أو سخيفة المعنى. أدركت الليندى أن بئر إبداعها قد نضبت، سعت إلى ملئها برحلات إلى مدن فى العالم، مخيلتها تستيقظ عند الخروج من الجو الذى ألفته إلى أجواء متناثرة. قد يكون جفاف بئر الإبداع لتبدل قناعات المبدع، فهو يقدم إبداعًا مغايرًا، ينقصه الصدق الموضوعى والفنى، فتبين بئر إبداعه عن ضحالة ما فى داخلها، وتعفنه.

لقد حقق شتاينبك مكانة متميزة برائعته «عناقيد الغضب» التى تتناول نضال عمال زراعة العنب فى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى روايات أخرى ضغطت على النضال الإنسانى ضد الظلم والقهر، لكنه سعى إلى نهايته حين قبل أن يكون عميلًا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، إلى حد ركوب طائرة مروحية، ألقى منها منشورات كتبها بنفسه على المواطنين الفيتناميين، أثناء حربهم ضد القوات الأمريكية.

فى تقديرى أن تخلى شتاينبك عن المهمشين الذين كانوا قوامًا لأعماله الروائية، كان هو المنزلق الذى مضى إليه فى طريق الموت الإبداعى، فضّل العمالة للمخابرات الأمريكية، وانتصر للاحتكارات، ولسلطات الحكم فى الولايات المتحدة، بصرف النظر عن سياساتها. ردم شتاينبك بئر إبداعه بيده، ولعله وجد فى تباين البداية والنهاية مسألة بديهية، لأنه كان قد فارق - بنفسه ومشاعره - تلك الطبقات التى عبر عنها إبداعه فى مراحله الأولى. عنى بالتعبير عن طبقة وحيدة صار عضوًا أصيلًا فيها بثرائه المادى، وباتساقه الفكرى مع أيديولوجياتها، ولم يكتف الرجل بالتخلى عما كان يرى أنه ثوابت فى حياته الشخصية والإبداعية، وإنما هاجم ما سماه أدب الحزانى والبؤساء. لكن المغايرة فى المواقف تلت النهاية الفعلية لإبداع شتاينبك, ظل ثريًا، ونجمًا فى المجتمع، لكنه ردم فى الوقت نفسه بئر إبداعه، لم يعد لديه فن حقيقى يجد فيه الناس ما يستحق القراءة. كانت رواية «يوم الخميس الحلو» التى صدرت لشتاينبك فى ظل قناعاته الأخيرة هى شهادة الوفاة لمبدع عظيم، وجد فيها القراء والنقاد عملًا لا ينتسب - على أى نحو - إلى إبداعات شتاينبك الأولى، وعلى حد تعبير ناقد أمريكى، فقد زادت أموال شتاينبك فى البنوك، لكنه فقد أرصدته الأدبية عند القراء. أما سومرست موم، فقد كان تقدم السن هو الذى أملى عليه قرار اعتزال الكتابة. أعلن فى 24 يناير 1964 - وكان قد جاوز التسعين - أنه سيهمل قلمه، ويكتفى بالقراءة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق