وكأنهم استشرفوا المستقبل فرفضوا أن يكونوا ضمن
من حملتهم السفن إلى أمريكا فى رحلات جلب الأفارقة قسرا إلى حيث الاستعباد وليس الحرية فى العالم الجديد إنهم شعب الماء الذين لا يبرحونه أبدا فى دولة بنين بغرب أفريقيا.
.........................
خاض مندوب «الأهرام» تجربة العيش مع شعب الماء لمدة يوم كامل فى بنين التى تقع عند أقصى جنوب غرب القارة الإفريقية حيث يعيش عشرات الآلاف من الأشخاص فى المياه لا يبرحونها أبداً.. هذه الحياة المائية ليست نوعاً من ممارسة الفولكلور أو الرياضة، أو الترويح عن النفس.. ولكنها حياة ممتدة منذ مئات السنين.. إنهم «شعب الماء» الذى يعيش محاطاً بالمياه فيما يسمونه «فينسيا إفريقيا». ويعيش شعب الماء بحالته الفريدة فى قرى داخل بحيرات جانفيه ونوكويه و «باسوسو» فى دولة بنين والتى كانت تعرف حتى عام 1975 باسم داهومى.
السبب فى لجوء الناس إلى الحياة فى الماء إلى أنه كانت هناك ديانة يعتنقها ملك داهومى تحرم على المقاتلين مهاجمة الناس على سطح الماء لذا اعتصم بعض الناس بالماء هرباً من القنص وطال مكوثهم فى الماء واستدعى الأمر أن يعيشوا حياتهم على سطح الماء.
يعود اسم بنين إلى حضارة كانت تحمل اسم «بنين» قامت فى غرب إفريقيا منذ عدة قرون. أما الاسم السابق «داهومى» فإنه يرجع إلى اسم ملك قديم اسمه دان. وقد اشتهر عنه شدة البأس والقوة وأشاع عنه أبنائه أنه يبتلع أعدائه فى بطنه والبطن معناه «هومى» ومن هنا أخذ المكان اسم «داهومى» بعد التعديل.
فى القرن السابع حط الرحالة البرتغاليون فى بقعة عند ساحل بنين وأنشأوا فيها مركزاً تجارياً أسموه «بورتونوفو» وسرعان ما وفد إلى المنطقة البكر تجار إنجليز وفـرنسيـون وهـولنديـون وأسبان. ولم يمض وقت طويل حتى شب النزاع بينهم إلى أن جاءت فرنسا وفـرضـت حمايتهـا علـى مملكـة بورتونوفو التى كانت المملكة المناوئة لمملكة «أبومى» وحولتها إلى مستعمرة تحمل اسم بنين ثم حولت اسمها إلى داهومى فى مطلع القرن العشرين وجعلت عاصمتها بورتونوفو.
الاحتلال الفرنسى دام من العام 1892 وحتى عام 1958 عندما أصبحت داهومى التى تغير اسمها إلى بنين فى عام 1975، جمهورية فى إطار الجماعة الفرنسية ثم حصلت على استقلالها فى عام 1960. وجاء وضع فرنسا فى هذه المنطقة فى إطار منظومة الاستعمار الغربى للقارة الإفريقية لنهب ثرواتها الطبيعية والبشرية. وكانت فرنسا أكثر الدول الأوربية نشاطاً فى غرب إفريقيا، وكانت بداية النشاط الفرنسى رحلات وصلت إلى السنغال بهدف تأسيس محطات تجارية فى هذه المنطقة. وترتب على ذلك تكوين ما عرف بإفريقيا الغربية الفرنسية من سبع مستعمرات، هى السنغال وموريتانيا والسودان الفرنسى وغينيا الفرنسية وساحل العاج وفولتا العليا «بوركينا فاسو حالياً» والنيجر وداهومى. وفى عام 1854 عين الفرنسيون الجنرال فيدهرب حاكماً على السنغال ليدعم نفوذ فرنسا فى هذه المنطقة فأخذ يتوغل للداخل وخلال عمليات التوغل اصطدمت فرنسا بالممالك الإسلامية التى كانت قائمة فى هذه المناطق، وبقبائل الطوارق والسنوسيين وغيرهم. كما اصطدموا بزعامات إفريقية أخرى وتمكن الفرنسيون فى النهاية من القضاء على المقاومة الوطنية وبسطوا نفوذهم على منطقة واسعة فى غرب إفريقيا.
سـاحـل العبيـد
كان ساحل بنين الذى اشتهر باسم ساحل العبيد يضم عدة ممالك إفريقية منها داهومى التى كان لها جيش قوى يشحن العبيد إلى العالم الجديد بالتعاون مع تجار الرقيق الأسود الأوروبيين ومملكة نيكى التى أنجبت عدة ملوك يشار إليهم بالبنان ومن بينهم الملك سيرو كبيرا الذى اكتسب شهرة واحتراماً واسعين. وفى الجنوب ازدهرت مملكة «أبومى» التى شهدت حقبة من الرخاء الذى نجم عن التجارة مع الأوروبيين، وساعد على استمرار الرخاء وجود جيش قوى يمنع الأطماع الخارجية.
ساحل الأطلنطى الذى تطل عليه بنين كان يعج بالحركة ليس لنقل البضائع ولكن لنقل البشر إلى العالم الجديد فى القارة الأمريكية.
استغل الاستعمار الأوروبى موارد إفريقيا الطبيعية ولم يترك البشر لحالهم وإنما قام بشحنهم إلى العالم الجديد فى الأمريكتين ليكونوا وقوداً لحركة التعمير هناك. ونظراً لكثافة حركة العبيد الأفارقة عبر ساحل بنين أُطلق عليه اسم ساحل العبيد.
عملية شحن العبيد إلى العالم الجديد لخدمة الأوروبيين ساهم فيها بعض الأفارقة لتحقيق مصالح خاصة لهم، ومن بين هؤلاء ملك داهومى الذى كان يقوم فى القرن السادس عشر بتمشيط المنطقـة بحثاً عن الرجال الأشداء لكى يبادلهم بسلع وبضائع يحملها الأوروبيون. وشهدت عمليات المطاردة صراعات ومعارك ضارية وسقط خلالها ضحايا رفضوا أن ينقادوا طائعين فى أيدى رجال ملك داهومى لكى يبيعهم بثمن بخس للأوروبيين، حيث الطريق الصعب إلى العالم الجديد فى رحلة تحيط بها من كل جانب المخاطر ويخيم عليها شبح الموت، ولا يكون الحال بأفضل عندما تصل الشحنات البشرية إلى العالم الجديد حيث ينتظرها هناك العمل الشاق.
الهروب إلى الماء
خـلال عمليات المطاردة اهتـدى بعض الناس إلى طـريقـة للهروب من أيدى رجال الملك، فقد كانت هناك ديانة يعتنقها الملك تحرم على المقاتلين مهاجمة الناس على سطح الماء لذا اعتصم بعض الناس بالماء هرباً من القنص وطال مكوثهم فى الماء. وفى القرن السابع عشر شهدت المنطقة حروباً أخرى أدت إلى موجات من النزوح من البر إلى البحر وأصبحت بحيرة «نوكويه» تزخر بحركة بشرية تزداد مع مرور الوقت.
لكى نعود بالزمن إلى الوراء ونعايش سكان الماء استلزم الأمر ركوب السيارة لمسافة 30 كيلو متراً من مدينة كوتونو عاصمة بنين.
الرحلة ليست طويلة ولكن المشاهد على طول الطريق متعددة.. الأمطار الغزيرة التى تهطل رغم ارتفاع درجة الحرارة لم تمنع الناس من الخروج للشوارع للبيع والشراء.. على قارعة الطريق جلست نساء لبيع الفاكهة والأطعمة المصنوعة من الدقيق والسكر التى يتم إنضاجها على مواقد تُشعل بالأخشاب وأفرع الشجر. ووجدت شباناً يبيعون سائلاً أصفر فى زجاجات يخيل إليك لأول وهلة أنه زيت طعام أو شامبوهات للشعر. ولكن بالسؤال تعرف أن ما تحتويه هذه الزجاجات هو بنزين، حيث يلجأ الناس لبيع البترول على قارعة الطريق فى زجاجات ويكون سعره أرخص من ذلك الذى يباع فى محطات تموين السيارات والموتوسيكلات.
عندما وصلت إلى إلى مدخل بحيرة ناكويه وجدت حركة دائبة وعشرات القوارب الصغيرة التى تقوم عليها حركة الزائرين للبحيرة وقراها.. فالسياح والراغبون فى زيارة القرى داخل البحيرة بإمكانهم أن يستقلوا أحد هذه المراكب نظير مبلغ يصل إلى 7 آلاف فرنك إفريقى، لا تنزعج من الرقم فهذه العملة التى يطلق عليها اسم CFA أى فرنك المجموعة الإفريقية تجعل حائزها مليونيراً على الورق فقط.. فالدولار الأمريكى يساوى نحو 650 فرنكاً إفريقياً.
المشهد فى مدخل البحيرة قد يجعلك تفكر فى عدم خوض المغامرة حيث الزحام ورائحة الماء الناجمة عن ضعف حركة التيارات المائية فى هذا المكان فضلاً عن ازدحام المكان بالقوارب التى تحمل الناس والتجار الذين يعدون إلى المكان ببضائعهم، تختلط برائحة الأسماك التى اصطادها سكان الماء وهى مصدر دخلهم الأساسى.
الإبحار إلى قرى الماء
يبدأ المركب الصغير المزود بمحرك يعمل بالبترول فى الإبحار داخل أعماق البحيرة وكلما ابتعد عن المرسى المزدحم بمياهه الملوثة كلما اتسع الأفق وظهرت معالم البحيرة مترامية الأطراف. وتنتشر فى أرجاء البحيرة القوارب التى يقوم أصحابها بالصيد، وهناك أيضاً مساحات فى البحيرة، تم تحديدها بـأفـرع الشجر لتصبح وكأنها مزارع خاصة وسط الماء. وبالسؤال عنها تأتى الإجابة بأنها عبارة عن امتيازات بالصيد فى هذه المنطقة يحصل عليها الناس من السلطات المختصة. وخلال رحلة الإبحار تقابل الوجوه السمراء ومعظمها لنساء وأطفالهن فى رحلة العودة إلى البيوت أو فى رحلة البحث عن الرزق..كما نجد قوارب أخرى محملة بالبضائع سواء كانت أطعمة أو كريمات وصابون هذا بخلاف الأسماك التى فى طريقها إلى السوق الرئيسى الذى نجد فيه المراكب راسية ومحملة بالأسماك التى جاء بها الصيادون فى انتظار التجار الذين يشترونها ليخرجوا بها إلى البر.
جذور فى الماء
لقد تألف نسيج السكان فى أمريكا من مزيج من الباحثين عن الفرص والهاربين من الاضطهاد الدينى فيما عاد الإفارقة الذين جئبهم مصفدين فى أغلال تجار العبيد الأوروبيين.استلهم اليكس هيلى مؤلف كتاب «جذور» قصته من جدته العجوز فيرإحدى قرى الزنوج فى جنوب أمريكا التى كانت تحكى عن عن رجل قديم اسمه الأفريقى الذى خرج إلى الغابة بحثا، عن جذع شجرة ليصنع منه طبلة فانقض عليه أربعة رجال وقيدوه بالحبال وألقوا به فى سفينة العبيد. ظلت تلك الحكاية عالقة بذهنه ودفعته للبحث عن جذور عائلته التى تم اقتلاعه منها. وبينما تم اقتلاع البعض احتمى آخرون بالماء وغرسها جذورهم فيه لكيلا تحملهم سفن العبيد إلى أمريكا.
رابط دائم: