دولة الرفاهیه «عنوان للنظام الجدید ام اخفاق قادم للبشریة»
بینما یكافح العالم فیروس كوفید 19 أو كورونا حسب التعبیر الدارج لهذا الوباء هیمن مؤخرا النقاش حول تداعیات مابعد كورونا وتأثیرها على العالم والاقتصاد العالمى و كثر الحدیث حول ملامح نظام عالمى جدید و تلقف العالم اطروحات تم تداولها حول الجیل الجدید من 5G وأبراجها وزراعة الشرائح الالكترونیة فى الجسد البشرى بنیة تحویل البشریة الِى كائن یسهل التحكم فیه عن بعد, وجاءت أوامر العزل بالمنازل والتى شملت بقاع الارض, ثم انتفاضة الأمریكیین المستمرة رغم العزل وتحت تأثیر غضب شعبى عارم مرشح للاستمرار والانتشارعبر الحدود ضد العنصریة والعنف الشرطى المفرط لتضع العالم كله امام لحظة مواجهة الحقیقة والتى عجل بها ظهور كورونا بغتة و بالتالى ما یجب ان تستعد له البشریة بما فى ذلك الدول التى استعدت بالفعل لنظام عالمى جدید ینهى نظاما داما لما یقرب من الأربعة قرون ومنذ اتفاق ویستفالیا عام 1648 حینما فرض التقدم حینها والمتمثل فى نظام السیادة الوطنیة و حدود الدولة التى كان یرسمها مدى وصول طلقات المدافع و بات الان مفهوما غیر واضح فى عالم جدید به صواریخ عابرة للقارات! وإذا اعتبر البعض ان الكورونا كانت بمثابة شرارة تشغیل الة الولوج الِى حقبة جدیدة وغیر مسبوقة فى التاریخ الإنساني, إیذانا ببدایة جدیدة دشنتها ثورة التكنولوجیا الرقمیة والاتصالات, التى حولت الكرة الأرضیة بالفعل الِى قریة صغیرة, مؤهلة لما یمكن ان نصفه هنا بـ»بدایة التاریخ» ولیس نهایته كوصف المفكر فرانسیس فوكویاما وهو یعلن انتصار اللیبرالیة الدیمقراطیة فى أعقاب انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفیتى والایدلوجیة الاشتراكیة وانتصار النظام الرأسمالى القائم على اللیبرالیة الدیمقراطیة مستلهما جدلیة هیجل و نهایة التاریخ وموت الالهة لنیتشه, وبالتالى فإنسان الرأسمالیة توحش وعلى وشك السقوط لولا ان للرأسمالیة میزة وهى القدرة على التصحیح, لیس هو الإنسان الأخیر حسب وصف فوكویاما فكیف عجل ظهور الكورونا بتفعیل نظام عالمى جدید وماهى ملامح هذا النظام وهل نحن مستعدون له؟ الاجابة ببساطة نجدها إذا تأملنا العجز الذى اصاب العالم بما فیه الجزء المتقدم منه عن مواجهة الفیروس منفردا, وبالتالى ایقن الجمیع بحتمیة اتخاذ سیاسة جمعیة یتعاون فیها الجمیع للتعامل مع هذا الوباء لقد كشف الوباء مشاكل نظام السیادة الوطنیة حتى مع مقاومة بعض الدول بمحاولة تعظیم دورها الا ان الجمیع أدركوا أنه لا یمكن لدولة معالجة كارثیة الوباء منفردة وأن النظم الصحیة على المطلق فى معظم مناطق العالم لیست لدیها الكفاءة والكفایة لحمایة البشریة وبالتالى فتعاون جمعى دولى فى مجال مكافحة الأوبئة و الحمایة الصحیة بات أمرا لا مفر منه وضروريا. لقد عرى انتشار الوباء أیضا الكثیر من الانهیار الحادث بالفعل فى النظام الرأسمالى و الذى زاد من تصدعه توحشه فى العقود الاخیرة فتوسعت الصناعات وزادت أرباح أصحاب رأس المال بالاستحواذ على النصیب الاكبر من فائض قیمة العمل فیما تقلص نصیب عنصر العمل المتمثل فى الأجور, ناهیك عن تلوث البیئة.
ذلك النظام القائم على أساس الاستهلاك والسوق, المكسب والخسارة, وضعته كورونا امام حتمیة اما ان یعدل من نفسه أو ینهار تماما. هذا التعدیل قد یكون مؤلما بالنسبة للنظم الرأسمالیة لأن معادلة الانقاذ و من ثم البقاء تتضمن اجراءات تتحول فیها ملكیة شركات الِى ملكیة عامة انتاجها یكون بغرض إشباع الحاجات الإنسانیة ولیس الربح! وهو الإجراء الذى كانت ستجبرهم علیه ثورة التكنولوجیا الرقمیة فى غضون العقدین المقبلین لاحظوا ان الذى عجل به كورونا و لیس كارل ماركس أو الشیوعیة! و بالنظر الِى إجراء عزل البشر فى البیوت كجزء من مواجهة الوباء نجد أنه عجل من مواجهة متوقعة ومستقبلیة مع اشكالیة تناقص الطلب على العمل كأحد أهم عناصر الانتاج وذلك نتیجة لعملیات الإحلال بالروبوت و الانتاج الآلى أو مایطلق علیه «الاوتومیشن» و المستمرة بشكل سریع بسبب طفرة التقدم التكنولوجى غیر المسبوقة فى مجالات الاتصالات والتواصل و المواصلات, هذه الطفرة التى تلغى عنصر «العمل « أحد المكونات الأساسیة للنظام الرأسمالى والذى هو نتاج تضافر عنصرى العمل ورأس المال و ینتج عنهما قیمة توزع على رأس المال فى صورة أرباح و على العمل فى صورة أجور, وهو مایمثل المداخیل التى تستخدم فى الاستهلاك. وبالتالى وفى ظل إحلال الروبوت و الاوتومیشن سیكون هناك عدد عمال أقل و اجور اقل و بالتالى استهلاك سوقى أقل, ولن تجد المنتجات على الأرفف المستهلك الذى یتوفر لدیه المال للشراء, وهو وضع كارثى فرضته كورونا و حاولت الكثیر من الدول معالجته مؤقتا بصرف دعم مالى محدود لمواطنیها المعزولین بمنازلهم دون اجور كما حدث بالولایات المتحدة معقل الرأسمالیة حین حصل كل دافع ضرائب على 1200 دولار, و تمت مساعدة الشركات الكبرى ومنها السیاحیة والفندقیة بمیزانیة تعویضیة فاقت التریلیونى دولار هى الأكبر فى التاریخ الأمریكى ایضا وفر العزل المنزلى فى نفس إطار اشكالیة تناقص الطلب على العمل كأحد أهم عناصر الانتاج, وفر مثالا أو ما یمكن وصفه بالبروفة المصغرة لما یمكن حدوثه فى حالة الإحلال الشامل للانتاج الآلى حین یرتفع و یتكدس الإنتاج, وتزید معدلات البطالة, و یقل الاستهلاك!! فرأینا انخفاض سعر النفط و مبیعات السیارات على سبیل المثال وقیام شركات كبرى معنیة بصناعات معینة بالتحول نحو إنتاج أجهزة التنفس الاصطناعى سواء بطلب حكومى أو طوعا لإنقاذ مایمكن انقاذه فى إطار العرض والطلب وهو الأمر الذى نبهه المستثمرون وأصحاب رءوس الأموال الِى ضرورة الانسحاب من عملیات الاستثمار فى العنصر البشرى و التعلیم الاعتیادى خشیة خسارة منظورة.
و قبل ان نستعرض معا السیناریوهات المرشحة لعالمنا على المدى القریب والمتوسط نتاج هذه المواجهة الواقعیة التى عجل بها ظهور كورونا, فعلینا التوقف اولا امام مایجرى حالیا فى أروقة الكبار فى عالم صنع القرار والسیاسات الاقتصادیة والاجتماعیة عالمیا, لنجد تفكیرا جدیا فى تعدیل النظام الرأسمالى لیستوعب معادلة اخراج عنصر العمل وبالتالى لن یصبح للعمل البشرى قیمة ليصبح التحول الِى مایطلق علیه «دولة الرفاهیة» Welfare State حلا حتمیا بمعنى ان یستمر الإنتاج الذى سیوفره الروبوت والانتاج الالى بتكلفة لا تذكر و ان یعاد توزیع الناتج أو الربح المتعاظم فى صورة مختلفة منها توفير حد معقول من الدخل المنتظم للأفراد و مشاریع خدمیة و توفیر خدمات للأفراد بكافة انواعها صحیة خدمیة تعلیمیة ترفیهیة توفیر الأمن الاجتماعى والمسكن و المأكل لضمان ان تجد المنتجات المصنعة من يشتريها, وبمعنى ان تتبنى الرأسمالیة القائمة على أساس الاستهلاك والسوق / المكسب والخسارة التخطیط واشباع الحاجات الإنسانیة, و هو بالاساس منهج ظهر مع الثورة الصناعیة وتبناه النظام الاشتراكى و لانه ینبغى دوما استمرار الاستهلاك فإن المطروح نظام عبارة عن نوع من التكامل والاندماج یؤدى فى النهایة الِى تحسین ظروف الحیاة فى مختلف ارجاء العالم وفقا للتفكیر العلمى مع اختفاء الأیدلوجیاــ بمعنى الفاشیة لیبقى الإنسان على قیم العقل والمنطق والحقوق الأساسیة التى یتمتع بها جموع سكان الارض, ذلك ببساطة لأن الإنسان یمتلك التكنولوجیا التى تمكنه من ان یكون سید الطبیعة. ونجد احد ملامح هذا النظام الجدید تعظیم الاستثمار فى التكنولوجیا, وحیث سیكون العنصر البشرى و تحدیدا العلماء القیمة الاهم لدى النظام العالمى المفترض والمستجد والقائم على الرفاهیة, و حیث تركز أطروحة هذا النظام على مجتمع عالمى كبیر ینتفى فیه الفقر وتتدنى فیه میزانیات التسلیح وتكون الوفرة ولیس الندرة هى الاساس, وتوضع خطط لاعادة توزیع الموارد والناتج المحلى والعالمى بشكل أكثر عدالة!!! صورة وردیة یصعب تصدیقها..الیس كذلك؟ بالمقابل نجد توقعات بـحدوث مقاومة قد تأخذ أشكالا واسالیب مختلفة, قد تصل الِى درجة حدوث حروب أهلیة وثورات واضطرابات, تفرضها مجاعات, البعض فى الولایات المتحدة بدا یتحدث بالفعل عن تلك المقترحات وعما یسمى بالحكومة العالمیة والتى ستكون اقوى من الأمم المتحدة وحیث ینحسر دور الاخیرة, وان البدء عملیا بتفعیل جزئى لهذه الحكومة المفترضة سیكون بمحاسبة الصین على مایسمى بتعمد إخفاء معلومات عن تسرب الكورونا واصاباتها, والحكم دولیا علیها وفرض عقوبات باهظة علیها وتهدیدها بفرض حصار ما لم تذعن!!
ویرى المؤیدون لدولة الرفاهیة أو النظام العالمى الجدید هذا انه رغم المقاومة المتوقعة فالنظام الجدید سیفرض نفسه ان اجلا ام عاجلا وحیث تنتفى الحاجة الِى استمرار التمسك بالسیادة الوطنیة وستكون الكرة الأرضیة وحدة القیاس, وستكون تعبیرات كالدخل العالمى والموارد العالمیه بدیلا للدخل القومى والموارد المحلیه! وهم یتوقعون ان لا تستسیغ البشریة فى البدایة هذا النظام العالمى والأمنى الجدید, والذى یرون انه سیفرض نفسه فى النهایة مهما تعددت سیناریوهات التعامل معه لأن البدیل سیكون الفوضى والصراع!! وإذا كنا نستطیع ان نجادل بتجارب مصغرة بها بعض من ملامح رفاهیة النظام الجدید الذى یتحدثون عنه و موجودة بالفعل فى عالمنا یمكن القیاس علیها نسبیا كالدول الاسكندنافیة وذلك فى نقاش مسألة حتمیة ان یدیر هذا النظام الجدید حكومة عالمیة, فإننا نجد انفسنا كمصریین و كشرقیین امام اشكالیة من نوع آخر وهى «الاستعداد» والعالم على اعتاب بدایة تاریخ بشرى جدیدة یصنع ملامحه ویقوده الاقویاء ومن هم قادرون على المساهمة!! اعتقد انه بات من المهم ان نستعد, و لتكن البدایة بان یتخلى مفكرونا و باحثونا و مثقفونا عن اجترار منهج البحث الدارج منذ سنوات طویلة والذى یعتمد على ما أخذوه من هنتجتون و كیسنجر و فوكایاما, فعزلوا انفسهم و مجتمعاتهم وصناع القرار بمنهج بحث عقیم بعیدا عن التحلیل المعلوماتى الحدیث, فى الوقت الذى تستعد البشریة لنظام جدید یستلزم استعدادا بتوفیر ظروف وسیاسات تؤهل المجتمعات للانضمام للعالم الجدید.. استعدادا وقوده سیاسات یحددها فكر مستقیم ومستنیر.
رابط دائم: