يتميز فن المسرح عن سائر فنون الدراما الأخرى بالتفاعل الحى ومواجهة الجمهور ومعرفة مدى النجاح أو الإخفاق على الفور.. ولعل هذا هو ما دفع البعض إلى القلق عند تقديم عروض وزارة الثقافة الأكثر نجاحا على موقعها «أونلاين» تماشيا مع الظروف المؤقتة التى يمر بها العالم بأسره بدرجات متفاوتة، على إثر تفشى فيروس «كورونا».. ولكن التجربة حققت نجاحا جماهيريا فاق توقعات الجميع.
ومازالت أهم العلامات المضيئة فى تاريخ المسرح المصرى تحقق مشاهدات ضخمة ربما تفوق ما حققته وقت عرضها.. وقد بدأ المشروع بعروض «قهوة سادة» من إنتاج مركز الإبداع الفنى وإخراج الفنان خالد جلال و«عروستى» من انتاج مسرح العرائس وإخراج الفنان محمد نور و«أهلا يا بكوات» من إنتاج المسرح القومى وتأليف الراحل الكبير لينين الرملى وإخراج الفنان عصام السيد.
مشهد من قهوة سادة
و«قهوة سادة» التى أثارت ضجة غير عادية وقلبت معايير نجومية شباك التذاكر قبل أكثر من 12 سنة حيث حقق مجموعة من الشباب الواعد الدارس فى الدفعة الثانية لمركز الإبداع نجاحا مذهلا وطاف العرض مختلف الدول العربية وبعض الدول الأجنبية وأصبح هؤلاء الهواة هم حجر الأساس لمختلف الأعمال الفنية الناجحة.. كما أكد خالد جلال قدرته على تقديم عمل مبهر فكريا وبصريا يدفعنا إلى الضحك من عيوبنا الاجتماعية ويدفعنا إلى البكاء أحيانا على ما فقدناه من قيم انسانية ومعان وأخلاقيات تحتاج إلى أن تنصب لها صيوان عزاء ونشرب على روحها فنجان قهوة سادة.. كما أسس ذلك العرض الناجح لفكرة اللوحات المرتجلة التى يربطها خيط درامى رفيع يؤكد العلاقة بين بعضها وبعض.. ولكن الحقيقة لم ينجح أحد فى ورشة الارتجال الجماعى فى تحقيق الخلطة السحرية التى يعرف أسرارها وحده خالد جلال. أما مسرحية «عروستى» التى قدمت قبل 14 سنة فشهدت باكورة أعمال المخرج المبدع محمد نور الذى أعاد تقديم فن الماريونيت بعد توقف لسنوات طويلة وجدد فيه.. إذ جعل محركى العرائس يتحركون فى جميع أنحاء الخشبة ولم يكتف بالتحريك من خلف الساتر الخشبى كما هو معتاد.. ونجح أيضا فى توظيف قدرات رسام الكاريكاتير الراحل مصطفى حسين لأول مرة فى تصميم عرائس لعرض مسرحى.. وحملت بالفعل العرائس ملامح كاريكاتورية محببة زاد من نجاحها أصوات الممثلين الذين شاركوا فى تقديم الشريط الصوتى للعرض ومن بينهم النجم أحمد السقا نجل رائد فن العرائس فى مصر صلاح السقا.. الذى كان يحضر كل البروفات ويوجه جميع العاملين بحب وأبوة وعشق للمكان.. كما شارك أيضا لطفى لبيب وسامى مغاورى وعهدى صادق وعادل خلف وقدم عصام اسماعيل ألحانا مبهجة شديدة البساطة والتأثير.. ومازالت كلمات أغنية النهاية محفورة فى الأذهان وتقول: «عروستى شعرها أسود وعينيها سود.. والاحمر عالخدود.. والأبيض فى ابتسامتها.. والسكر فى كلامها وجمالها مالوش حدود.. عروستى حنينة وجميلة ومؤمنة.. خدودها ورد بلدى وقوامها نخل بلدى.. فستانها قطن بلدى وغرامها فى دمنا.. عروستى اللى يشوفها.. يلقى النيل بين كفوفها.. تلات حروف ولكن.. كل الدنيا فى حروفها».
أما العرض الثالث «أهلا يا بكوات» فقد جمع بين النجمين القديرين عزت العلايلى وحسين فهمى لأول مرة معا فى مسرح القطاع العام.. كما جمع بين قلم لينين الرملى ورؤية المبدع عصام السيد وتنبأ العرض فى رؤية كاريكاتورية بمأساة حكم الجماعات الدينية المتطرفة.. وكان ذلك فى ذروة ذوبانهم فى أوصال المجتمع ومنابر الرأى والإعلام.. فضلا عن حضورهم القوى فى المجالس النيابية والنقابات.. وتحمس الكثيرين من البسطاء لهم بحكم أنهم كانوا يسوقون بضاعتهم تحت شعارات العودة للدين والأخلاق ومحاربة الفساد والغش والتربح.. ويتصدى المثقف الواعى الذى كان يؤدى دوره عزت العلايلى لمحاولات هدم الحضارة ومحاربة الثقافة والفنون وإقامة مجتمع بدائى يصلح لأفكار رجعية ويقوم على السمع والطاعة والتقليد والاتباع بينما يستسلم المثقف الاستغلالى الذى أدى دوره حسين فهمى للوضع القائم.. ويجد تبريرات لبيع عقله وضميره والبحث عن مكاسب وقتية يفرضها الوضع الراهن ويظل الصراع قائما حتى يفيق الغافلون على خطورة التنازل وقبول الحلول الوسطية المائعة.. ورغم خطورة القضية إلا أن عصام السيد طرحها فى شكل كوميدى استعراضى مبهر مستخدما عناصر الموسيقى والديكور والملابس والإضاءة فى تأكيد الأفكار المكتوبة وترجمتها إلى عرض مشوق لا يفقد بريقه بمرور الزمن.. ولعلنا نحتاج إلى استمرار تلك التجربة الثرية وتلك الخدمة الثقافية المجانية للتأكيد على هوية فن المسرح وتعريف الأجيال الجديدة بحقيقة فن المسرح ومدارسه المختلفة.
رابط دائم: